بيروت تايمز - فلوريدا - المحرر الثقافي
في لقاءٍ فكريٍّ ضمّ باحثين من جامعات أميركية متنوعة استضافته المكتبة العامة في فلوريدا، عرضت الأستاذة مروة كريدية ورقة بحثيّة جاءت بعنوان :" وحدة الوجود: التشظي وانعكاسه في المجال الانساني " أعقبها نقاش ثري حول علاقة الفيزياء والفلسفة وطروحات فيرنر هايزنبرغ حول ذلك ، وقد اجمع الحضور على أن كل ما يدور حول موضوع ما بعد الفلسفة المعاصرة من دراسات لا يزال في دائرة الأسئلة التي تسعى لطرح بناء معرفي مغاير يواكب الطور الجديد للحضارة الانسانية .
وقد استهلت الباحثة المحاضرة بالقول :" لا يسعنا إلا نعبّر عن ضآلتنا أمام كونٍ فسيحٍ ، فجلّ ما نقوم به هو استقراء لعلاقتنا به في ظل الاكتشافات المهولة التي تستدعي انعطافات جديدة على صعيد العلوم النظرية والتطبيقية لفهم الظواهر " واضافت :" إن نظرية "وحدة الوجود " ممكن ان تُشكل أرضية لفهم التعددية والتشظي والكثرة" في اطار " الواحدي" وهو مايعرف ب"الكاوس الفلسفي " Chaos مما يغيّر مفهوم الهويّة عند الكائن البشري. بحيث انّ كل مرة ينبثق فيها التشظي عن الهوية يكون جديد تمامًا، وهو بذلك لا يمتزج بها ولا يعود اليها، وبهذا المعنى فهو لا يحتفظ بها إلا بوصفها ممحاة وليست ظاهرة وان كانت توجد في اساس ظاهره "
وأشارت الى أنه منذ بزوغ ميكانيكا الكم فقد وجد المفكرون انفسهم مجبرون على اعادة التفكير بطبيعة الحقيقة بذاتها والادراك والوعي... لأنه لا يمكننا اغفال الاثار المترتبة على الفيزياء دون اطار فلسفي .
وفي معرض شرحها تقول:"ان عملية فهم الكون بوصفه عالمًا كوانتيًّا مؤلفًّا من ذرات وجزيئيات تحكمها مستويات طاقة تؤدي للترابط بينها ، يمرّ بخبرة عملية معاشة ويجعلنا نُعيد اكتشاف العلم الذي يستند على النظرية والتجارب في كينونتنا نفسها، فنعي وجودنا بمستوى إدارك مغاير يتناغم فيه المعرفة بمستوياتها وبطبقات الواقع المتغيرة .
وقالت كريدية " إن مسألة كونية الكائنات وبالتالي كونية الانسان و وجوديته وعلاقته بالكائنات جميعها وبالكون الخارجي تجد لها تفسيرًا رائعًا عند الفلاسفة القائلين بنظرية وحدة الوجود، وإن كان لكل واحدٍ منهم أدواته ومرتكزاته الفكرية ومنطلقاته البنيوية التي استند اليها، إلا أنّ مسألة كهذه تبقى رهن "الذوق الفطري" للانسان وان تراءت لنا من خلال نتاجات شريحة كبيرة من الفلاسفة وحتى الأدباء؛ ومنها كتابات أفلوطين القائلة بالفيض والصدور من خلال نظريته "التدرج الكوني" الذي يفيض عن الواحد كثرة وينتهي بالانسان، ثم عودة هذا الانسان في تجاوزه للكثرة الظاهرة إلى الأصل الواحد " وتضيف :" اما عند ابن عربي فتُعد وحدة الوجود المركز المحوري الذي يدور عليه فكر الشيخ الأكبر و التي يفسر بها كل شيئ في عالم الوجود، فهو يرى ان كمال الحكمة عند الانسان بوصفه جامعًا لحقائق الأكوان كلها من خلال روحانيته، فمقتضى الزوجية يقصد "الثنائية" - إثبات الشيئ باللون - اي "بالنوع"، ومقتضى الروحية هو "عدم التضاد" اي إيجاد الشيئ بالكون اي "بالوحدة". فبسط العلاقة بين اللامتعيِّن والمتعيِّن، كواقع من وقائع الخبرة العرفانية للحقيقة، يعيِّن البنيان الكلِّي لوحدة الوجود: فهي خبرة روحية بوصفها التفاعل بين الوحدة والكثرة."
و في معرض شرحها اشارت كريدية الى انّ :" الانسان يقبع بين لانهائيتين، في كون لا نهاية صغرى له كما لا نهاية قصوى او كبرى له. لذلك فهو التقاء لهاتين اللانهائيتين وهو مستوى "ثالث" ان صح التعبير يحقق عدم التناقض وهو جوهر "نظرية وحدة الوجود ". وهو ما يؤسس لمعرفة جديدة تتبنى نظرة مغايرة لكل فعل بشري مجتمعي وعقدي حيث لا سلطة معرفية فيه اذ تنتفي حكما بحكم تعدد المراجع "
وقد ارتكزت الباحثة في مقاربتها على محاور خمسة هي:
اولا : ( الواحدي ، او الكاوس الفلسفي المتافيزيقي ، او المكوّن ، ... ) هو الذات والموضوع.
ثانيا : المكوِّن "الكاوس" يتجلى في الكائنات "كثرة وتتعددية وتشظيا فتتظهّر "الهويات".
ثالثا: السببية هنا يكون فيها السبب متصل مطلق مستمر لا يفصل بين الوجود الواقعي "المُحَايث" أي وجود ما هو موجود، والوجود "المُتعَالي" وجود واجب الوجود" الواحدي لانه جوهر كل معرفة وكل علم.
رابعا: الهوية المتولدة توصف بالمنفتحة والمتشظية الى هويات لامتناهية و القابلة للتغيير الدائم المستديم.
خامسا: تلاشي واضمحلال الثنائيات المتقابلة الضدية من خلال وجود مستوى آخر مشمول عبر الوحدة المفتوحة وهو ما يُطلق عليه "الموقف العابر" اي انه هناك حدّ ثالث او رابع او اكثر، ينتمي لمستوى واقع آخر، حيث ما يبدو متناقضا يُدرك كغير متناقض وما يبدو مفرقا ( كجسم او موجة هو في الواقع موحد كوانتم في مستوى مغاير) .
وانهت الدكتورة مروة كريدية كلامها بالقول :" من الأسهل اثبات " الكاوس العلمي (اي المبدأ الاولي ) الذي يمكن استخراجه والبرهنة عليه بالتجريب والرياضيات، اما الكاوس الفلسفي الميتافيزقي فإنه ينفلت من التجربة وهو تأملي لا يخضع للقياس، وان عملية الانتقال من الاول الى الثاني امامه عقبات كبيرة، على الفكرالبشري ان يذللها، للانطلاق بهوية جديدة لا تتحقق الا بالاختلاف المطلق و تؤدي لخلق معرفي جديد لا وصاية لأحد عليه، وهو ما لا يُتوقع تبلور صورة واضحة عنه في المدى القصير بل ربما سيتبلور من خلال التطور العلمي الهائل التي ستواكبه الاجيال القادمة فيما بعد ."
الجدير ذكره ان مروة كريدية هي أديبة وباحثة لبنانيّة مقيمَة في الولايات المتّحدة الأميركية، تُقدِّم من خلال أعمالها الأدبيّة والفكريّة، رؤيةً كونيّةً للقضايا الإنسانيّة المعاصرة . تفرّغت لدراسة ظواهر العنف في المجتمعات البشريّة، والبنى الإيديولوجيّة المؤسِّسَة لها، وعلاقة ذلك بالحقوق والمدنيّة والأنظمة السياسيّة.عملت في ميادين ثقافية وأكاديميّة متنوعة، وشاركت في أعمال حوار الأديان واللاهوت المقارن، كما نَشطت في ميدان الإعلام الثقافي. حازت على العديد من شهادات التقدير لجهودها، كان آخرها إدراج إسمها على نُصب التسامح في ولاية ألاباما الأمريكية، الذي يكرم المدافعين عن القيم الإنسانية والسلام ويشرف عليه مركز الحقوق المدافع عن الحريات ومكافحة العنصرية.
Comments