شارع الحمرا في بيروت، بين عامَي 1970 و1990، كان القلب النابض للعاصمة اللبنانية
شارع الحمرا، مقهى الهورس شو (Horse shoe) و كافيه دو باري (Café de paris) كانوا ملتقى للمثقفين والكتّاب العرب مثل محمود درويش، نزار قباني، أنسي الحاج، إلياس خوري وغيرهم. الشارع الرئيسي كان يُعتبر “الصالون الثقافي غير الرسمي” في بيروت
الحمرا - بيروت - حوار منى حسن - بيروت تايمز
محمد الريس عضو جمعية تجار شارع الحمرا في بيروت، شخصية بيروتية تحمل في حضورها ملامح من زمن كان فيه شارع الحمرا يتباهى بكونه واجهة حضارية وثقافية في العالم العربي. انخراطه في لجنة تجار الحمرا لا يقتصر على مجرد تمثيل مصالح السوق، بل يتعداه إلى دور أشبه بمؤرّخ اجتماعي، يسرد تحوّلات الشارع وتحدياته بشغف ومرارة نابعة من انتماء عميق للمكان. مؤسساته التجارية ليست مجرد واجهات للبيع، بل شواهد حية على عصر كانت فيه بيروت تتوسّط خرائط الأناقة الفكرية والاقتصادية.
بالنسبة للريّس، الحمرا ليس فقط اسم شارع، بل حيزاً له ذاكرة جمعية، كانت تجتمع فيها الطبقة الوسطى الصاعدة، وتلتقي نخبة المثقفين في المقاهي والمكتبات والسينمات. حين يتحدث عنها، لا يمكن تجاهل النبرة التي تنوس بين الفخر والأسى؛ يروي كيف انقلبت معالم الشارع بعد أن اجتاحته الفوضى وتفاقمت ظاهرة التسول، وهو يرى في ذلك انهياراً لصورة كانت تليق ببيروت وناسها.
في مواقفه، تظهر روح المبادرة والقلق الاجتماعي؛ فهو من بين الأصوات التي طالبت بإيجاد حلول واقعية لظاهرة المتسولين، وإعادة تنظيم المشهد التجاري، خصوصًا مع تضارب المصالح بين المالكين والمستأجرين في ظل قوانين الإيجارات غير السكنية. في أكثر من مناسبة، عبّر عن استيائه من استغلال بعض المتاجر للأزمات، رافعًا الصوت لضرورة ضبط الأسعار وحماية التاجر والمستهلك على حد سواء.
الرجل أيضاً له حضور خارج الإطار الاقتصادي، فقد خاض تجرِبة الترشح للبلدية وانسحب لاحقًا، مفضلًا أن يحتفظ بصدقيته الاجتماعية بعيداً عن التجاذبات السياسية. يشارك في لقاءات وجلسات مع شخصيات سياسية وفكرية، ويميل إلى خطاب جامع يتجاوز الانقسامات ويستند إلى حس إنساني واضح.
يمكن وصف محمد الريّس بأنه تجسيد لرجل شارع الحمرا التقليدي، بين الحرفية والحنين، بين الواقعية والطموح. يربط الماضي بالحاضر، لا ليبكي على الأطلال، بل ليطالب بحماية ما تبقّى من هوية لبيروت التي يعرفها جيداً، وإلى تفاصيل الحوار:
■ بيروت تايمز: هل يمكن ان تصف لنا كيف كان شارع الحمرا بين عامي 1970 و 1990؟
- شارع الحمرا هو أحد الشوارع الرئيسية في عاصمة لبنان بيروت، وواحد من المحاور الرئيسية والاقتصادية والدبلوماسية. يوجد فيه العديد من المقاهي على الجهتين من الشارع الرئيسي، ويوجد فيه المسارح اللبنانية المشهورة والمطاعم والمحلات التجارية، والعديد من الفنادق والشقق المفروشة والمقاهي، وكان شارع الحمرا ايضاً مركزاً للنشاط الفكري في بيروت قبل الحرب اللبنانية
بين عامَي 1970 و1990، كان شارع الحمرا، يُعتبر القلب النابض للعاصمة اللبنانية، ومرآةً لحيوية بيروت الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. في هذه الفترة، عرف الشارع أزهى عصوره، وتحوّل إلى مركز عالمي مصغر يختزل أنماط الحياة اللبنانية، ويجذب المثقفين، الفنانين، السُيّاح، والسياسيين من كل أنحاء العالم العربي، بل والعالم.
■ هل شارع الحمراء كان يسمى "باريس الشرق"؟
-شارع الحمرا كان في بداية السبعينات، يسمى بـ “باريس الشرق”، ويمتد من شارع «مأمون بيهم» حتى تقاطع كورنيش المزرعة، التي تضمّ نخبة من المتاجر الراقية والمقاهي والمكتبات والفنادق والسينمات. كانت رمزاً للحداثة والانفتاح والطبقة المتوسطة الصاعدة وايضاً اهم العلامات التجارية الأوروبية والعربية، ومحال أزياء ومجوهرات جذبت سكان المدينة والسياح العرب، خاصة الخليجيين.
ومن اهم المعالم والوجهات في شارع الحمرا مقهى الهورس شو (Horse shoe) وكافيه دو باري (Café de paris) ملتقى للمثقفين والكتّاب العرب مثل محمود درويش، نزار قباني، أنسي الحاج، إلياس خوري وغيرهم. كان يُعتبر “الصالون الثقافي غير الرسمي” في بيروت.
صلاح تيزاني (أبو سليم) و محمد الريس عضو جمعية تجار شارع الحمرا و الممثل فؤاد حسن
هناك ايضاً دور سينما مثل سينما ستراند، سينما الحمرا، سينما السارولا، سينما الكوليزي، سينما المنتي كارلو وسينما المونتريال. ولا ننسى ايضاً اهم و ارقى الفنادق مثل فندق كومودور وفندق الحمرا بلازا، اللذان استضافا نجوماً عالميين وصحفيين أجانب خلال الحرب، إضافة إلى كبار زوار لبنان من العالم العربي. وطبعاً لا ننسى تاريخ المكتبات الشهيرة: مثل مكتبة أنطوان، ومكتبة النيل والفرات، والمركز الثقافي الفرنسي، كلها كانت تبيع أحدث الكتب والصحف العالمية.
مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، تضرر شارع الحمرا، لكنه لم يمت. ورغم التدهور الأمني، بقي الشارع ينبض بالحياة، بشكل مفارق ومثير.
شارع الحمرا لم يكن مجرد شارع، بل كان مساحة للانفتاح، للجدال السياسي، للحوار الثقافي، للتعدد الديني والفكري. كان مثالًا لما يمكن أن تكون عليه بيروت: مدينة حرة، نابضة، مرنة، تقاوم الانهيار وتحمل إرثاً من المجد الثقافي والمعرفي.
الناس الذين عاشوا تلك الحِقْبَة يصفون شارع الحمرا بأنه كان “يشبه باريس في الأناقة، وبغداد في الأدب، والقاهرة في الحركة”، وأن الجلوس في أي مقهى هناك كان كافياً لأن تخرج بفكرة أو نص أو نقاش فلسفي عميق.
■ ماذا عن عامي بين 1970 و1990 بعد انتهاء الحرب؟
- ما يرويه محمد الريّس عن فترة ما بعد الحرب بين 1970 و1990 يكشف عن عمق شعوره تجاه شارع الحمرا، الذي لا يراه مجرد شارع تجاري، بل تجسيداً مصغّراً لبيروت نفسها—حُلمها، أزمتها، ومقاومتها. وصفه للحمرا بأنها جمعت بين القهوة والرصاص، والشعر والقذائف، يُلخّص التناقض الجوهري الذي عاشته المدينة، حيث كان الإبداع يسير بمحاذاة الخطر، والحداثة تتشبث بجذورها رغم نيران الحرب.
في عبارته: "لبيروت مصغّرة… ولبناناً يحلم ويعاني"، نقرأ تأريخاً عاطفياً لحالة بلد بالكامل، حيث الحمرا كانت مرآة تعكس أحلام اللبنانيين التي لم تتلاشَ رغم المعاناة، بل ازدادت وضوحاً وإصراراً. ومن خلال شهادته، يتبيّن كيف أن هذا الشارع ظلّ صامداً، لا كمكان فقط، بل كحالة معنوية، كشاهد حي على مدينة ترفض أن تُمحى أو تُطوى صفحتها.
محمد الريس في صورة تذكالرية مع بعض الاصدقاء
■ كيف استطاعت بيروت، في حقبتها الذهبية، أن تجمع بين الأناقة والفكر، وتتحوّل إلى منصة عالمية تُلهم الثقافة والفن والانفتاح في الشرق الأوسط؟
بيروت، تلك المدينة التي تخطّت حدود الجغرافيا لتغدو قصيدةً مرهفة تتردّد أصداؤها في الذاكرة الجماعية، شهدت في منتصف القرن العشرين حقبة ذهبية تألّقت فيها بجمالها الراقي وأناقتها الفكرية. في الخمسينيات والستينيات، كانت بيروت تتوسّط خرائط الحلم العربي، تُدعى "باريس الشرق" لا مجازًا، بل اعترافًا عالميًا بمكانتها كمركز نابض للثقافة والفن والسياحة والأعمال المصرفية. شوارعها كانت تمشي على نَغْمَة النهضة، ومقاهيها تمتلئ بالحوار، والهواء يضجّ بأنغام فيروز، وكأن المدينة تتنفس حبًا وإبداعًا.
ازدهارها الاقتصادي لم يكن مجرد إشارات على الورق، بل انعكس في نبض الحياة اليومية، من المصارف التي نسجت علاقات دولية إلى الفنادق الفخمة التي احتضنت زوّارًا من كل الأصقاع. في تلك المدّة، كما وثّقت بيروت تايمز في العديد من تقاريرها، كانت بيروت مرآةً لعالمٍ يتطلّع إلى الجمال، مركزًا للفكر الحر، ومرفأً يلتقي فيه الشرق والغرب بشغفٍ وانسجام.
واللافت في تلك المرحلة، ذلك التعايش الفريد بين الطوائف والأديان، حيث كان الاختلاف مصدر غنى لا صراع، وكانت المدينة نموذجًا للعيش المشترك، مبهرةً بتنوّعها، راقيةً بتسامحها، نابضةً بالحياة والفكر.
لكن الحروب لا تعترف بالجمال، فاندلعت الحرب الأهلية عام 1975، وأطفأت شيئًا من وهج المدينة، ومزّقت بنيتها التحتية وألحقت بها أضرارًا جسيمة. التوترات السياسية زادت من نزيفها، وأجبرت بيروت على الانحناء أمام عاصفة الوجع، دون أن تنكسر تمامًا.
ورغم ما حلّ بها، فإن بيروت، كما تؤكد مراسلة "بيروت تايمز" في كل مناسبة، انها مدينة لا تموت وتحمل في طيّات شوارعها إرثًا ثقافيًا وفنيًا يرفض أن يُنسى، وتستعيد في لحظات الهدوء صوت الزمن الجميل، الذي لا يزال يهمس لكل من يمرّ فيها: "كنتُ الحلم، ولا أزال الذاكرة التي تأبى أن تُمحى."
■ الرئيس الشهيد رفيق الحريري زار شارع الحمرا هل تتذكر هذه الزيارة التاريخية؟.
نعم... كأنها رؤيا لا تغيب، سكان شارع الحمرا تنفّسوا حياة جديدة يوم حلّ فيه موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لم تكن مجرد زيارة سياسية... كانت مشهدًا من فيلم لا يُمحى، مشهدًا يحفر في الذاكرة الجماعية ببطءٍ ووقار. الناس سكنوا الأرصفة قبل ساعات، وتدلّت الأرواح من الشرفات كأنها تريد لمس الحلم. البلكونات ازدحمت بقلوب نابضة، والشبابيك صارت مرايا تظهر الأمل.
في ذلك اليوم، بدا شارع الحمرا وكأنه يعانق الزمن، كأن بيروت أعادت ترتيب نبضها، وعلّقت على صدرها وسام رجلٍ أعاد لها وهجها بعد أن عصفت بها الحروب. كانت زيارة رفيق الحريري أكثر من مرور... كانت حدثًا ميتافيزيقيًا، عَبَرَ فيه رجل دولة لامسَ عصب الناس بصدق، وأعاد إليهم ما فقدوه: الثقة، الحلم، ومشهد الغد المضيء.
العصر الذهبي
الكل أجمع أن زمن الحريري كان العصر الذهبي، ليس لأنه أنشأ وبنى، بل لأنه خاطب الوجدان اللبناني بلغة العقل والحب. اغتياله لم يكن فقط استهدافًا لشخص، بل محاولة لكسر هُوِيَّة، لتمزيق شريط الحلم. ومنذ غيابه، والبلاد تمشي على أسلاك الخوف والتشرذم.
لكن الذاكرة لا تكتفي بالحزن. فقد عاد الابن، الرئيس سعد الحريري، إلى الحمرا ذات يوم. عاد بظلال الأب، وبنبرة الأمل، فاستفاق الناس من خيباتهم لحظة رؤيته. هرعوا إليه كما يهرع العطشى إلى النبع، وكأنهم يهمسون: "لا تتركنا في مهبّ الغياب".
جميع ابناء المنطقة وثّقوا هذا العشق الشعبي، وأكّدوا أن الرغبة الحقيقية بعودة سعد الحريري لا تزال تنبض في الشارع اللبناني، فالناس يريدون رجلاً لا يبيعهم الكلام، بل يشعل فيهم شمعة الرجاء. يريدون من يمثّل الاعتدال، من يستطيع أن يجمع ما تبعثر، ويعيد للدولة صورتها التي بهتت.
في شارع الحمرا، لا يزال صدى تلك الزيارات حيًة... وفي عمق الذاكرة، يقف رفيق الحريري بشموخه، وسعد الحريري بأمله، كأنهما نبوءتان من زمن لا يزال يقاتل كي لا يُنسى.
Comments