بقلم: لبنى عويضة...
ظاهرة مقلقة تلف المجتمع اللبناني وتهاجمه يوميًا من كل حدب وصوب، تتفاقم أرقامها مع كل ساعة تمر. "حوادث السير"، هذا التهديد اليومي لحياة المواطنين، لا تميز بين مذنب وضحية، وتصرخ بأرقام صادمة على هشاشة الدولة وغياب التخطيط.
جمعية “اليازا” دقت ناقوس الخطر، إذ خلال شهر آب فقط سقط أكثر من 56 ضحية، فيما ارتفع عدد ضحايا حوادث السير هذا العام بنسبة تتجاوز 30% مقارنة بالعام الماضي، ما ينذر برؤية سوداوية لواقع الطرقات اللبنانية، حيث لا يعد الأمر مجرد سوء تنظيم، بل يتحوّل إلى هدر مستمر بأرواح البشر، كأنهم أحجار “دوما” تتساقط بطيش وبدون حساب.
الطرق أكثر من مجرد شوارع
الطرق اللبنانية ليست مجرد شوارع مرسومة على الخرائط، بل هي شرايين حياة يومية تحمل صخب المدن وهموم الناس. كل حادث، مهما بدا عابرًا أو عشوائيًا، يعكس فشل التخطيط الحضري، ارتباك القوانين، وانقسام الثقة بين المواطن والدولة. السيارات لا تتحرك على الأسفلت فحسب، بل على موجات من القلق والغضب والإرهاق، وعلى مفترق الإهمال والحظ، فتهمس الطرق بقصص من فقدوا السيطرة ومن فقدوا أحبائهم، وتكتب على الجدران الصامتة للمدن صرخة لا يسمعها إلا من يتأمل.
من يتحمل المسؤولية؟
وزير الأشغال والنقل فايز رسامني أوضح في مقابلة صحافية أن الأسباب المباشرة تتراوح بين السرعة الزائدة، استخدام الهاتف أثناء القيادة، الحفر المفاجئة، المطبات العشوائية، وغياب إشارات المرور والتنظيم، لكنه شدد على أن هذه العوامل مجرد أعراض لمشكلة أعمق: غياب استراتيجية وطنية شاملة للسلامة المرورية.
المسؤولية، بحسب الوزير، لا تقع على وزارة الأشغال وحدها، بل تشمل البلديات ووزارة الداخلية، مع الحاجة إلى تمويل يصل إلى 800 مليون دولار لتأهيل الطرق والأنفاق والجسور. كما أن غياب الإرادة السياسية والتخطيط الاستراتيجي يؤدي إلى تراكم الأزمات، ويترك المجتمع أمام دوامة متجددة من الخطر.
صدمات وعين على الخطر
الأثر النفسي للحوادث يمتد بعيدًا عن الضحايا، ليطال الشهود والمجتمع بأسره. القلق والخوف أصبحا روتينًا يوميًا، حتى في رحلات قصيرة، ما يعكس فقدان الثقة والشعور بعدم الأمان، ويترافق مع إحباط جماعي تجاه الدولة، إذ يبدو أن كل جهود الإصلاح تصطدم بجدران البيروقراطية والفساد.
الشباب، الذين يشكلون نسبة كبيرة من مستخدمي الطرق، يقودون أحيانًا بلا وعي بسبب البطالة والضغط الاقتصادي وفقدان الأمل بالمستقبل، فيما يضطر العجوز للتنقل رغم ضعف قدراته، والأطفال يجدون أنفسهم على طرقات غير آمنة، ما يجعل الطرق اللبنانية مرآة لهياكل اجتماعية غير عادلة وتوزيع غير متكافئ للأمان.
الفوضى البنيوية
أزمة النقل العام وعدم وجود سياسات واضحة لإدارة قطاع السيارات تزيد الفوضى، مع وجود أكثر من مليون سيارة، منها 300 ألف في بيروت وحدها، بدون تنظيم أو نقل عام فعال، ما يحول الطرق إلى مسرح يومي للفوضى والحوادث والتلوث. الحوادث إذًا ليست أخطاء فردية، بل نتيجة مباشرة لخلل بنيوي في إدارة الدولة والمجتمع، تتضافر فيه البنية التحتية الضعيفة، سوء إدارة السياسات العامة، والثقافة الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى الأبعاد النفسية كالخوف المستمر والتوتر والصدمات المتراكمة.
كل حادث يعكس أزمة أوسع: التناقض بين الفردية والتضامن، بين الرغبة في الحياة والإهمال، بين الطموح الشخصي والواقع المؤسسي. الطرق اللبنانية ليست مجرد فضاءات للنقل، بل مساحات اختبار للمجتمع والدولة، تكشف هشاشة التخطيط، ضعف القوانين، وفقدان المسؤولية الجماعية.
مفاتيح التحول الممكن
الحلول تتطلب إعادة بناء البنية التحتية بشكل استراتيجي، تطبيق صارم للقوانين، تطوير النقل العام لتقليل الفوضى والتلوث، تغيير الثقافة المجتمعية عبر التوعية والتعليم منذ الصغر، ودعم الضحايا والشهود نفسيًا واجتماعيًا، لخلق بيئة تعالج الخوف والإحباط.
الطريق إلى الأمل
الطرق اللبنانية اليوم تحمل رسالة واضحة: إذا لم يتغير النظام البنيوي، ستستمر في ابتلاع أبنائها وتكون مسرحًا للصراع اليومي بين الإنسان والقدر. لكنها تحمل أيضًا إمكانية التحول إلى مساحات آمنة، إذا اجتمعت الإرادة السياسية، التمويل، التخطيط، والوعي الاجتماعي. عندها فقط يمكن للبناني أن يشعر بأن الطريق ليست مجرد خطر، بل فضاء للحياة، للأمان، وللأمل.
نشر المقال أيضاً في جريدة الرقيب الالكترونية
Comments