بقلم: صالح الطراونة
مندوب "بيروت تايمز" – عمّان
حاول أن تتخيل الحياة بلا ضبط للوقت. قد تنجح في ذلك، رغم أنك تدرك جيدًا أن الشهر معروف، والسنة محددة، واليوم مسجّل، والأسبوع واضح المعالم، وأن ساعة الحائط أمامك تشير بدقة إلى عقاربها، وأن هاتفك الذكي يضم رزنامة وساعة رقمية تتوسط شاشته الرئيسية. ومع ذلك، حاول أن تتجاهل كل ذلك لتعيش لحظاتك بلا أي قيود زمنية.
تخيّل أن الوقت ليس سوى ظلٍّ عابر، لا يترك أثرًا إلا بقدر ما يتركه طيف خافت على الجدار. تخيل أنك تعيش في جزيرة هادئة، معزولة عن ضجيج الزمن، وسط محيط أسود لا نهاية له. هناك، ستكتشف أن كل ما يستحق أن نموت لأجله، يستحق بالضرورة أن نعيش لأجله أيضًا. فما المانع إذن أن تتخيل حياتك خالية من أي ضبط للوقت؟
لا تخشَ مرور السنوات أو نسيان عيد ميلادك السنوي؛ فالإنسان في جوهره ليس سوى وحدة قياس للزمن. فلا تمنح خلافات الناس حول فلسفة الوقت فرصة لإرباكك أو سلب حياتك معناها. واصل السير في طريقك بثقة، وأنت تدرك أن كل القوارب مهما اتجهت ستواجه التيار، وأن التوقف عند الماضي لن يعيد لك ما سرق من ربيع عمرك. لا تبوح لأحد بسرّك، فالبوح يفتح أبواب الفقد، وحينها يصبح الغد هو الكأس الوحيدة التي تستحق السعي إليها.
لقد جاهدت عبثًا في مواجهة الحياة، حتى شعرت أن عظامي تتهاوى تحت وطأة أيام لا أعيشها كما ينبغي؛ أيام "سرمدية" بلا بداية ولا نهاية. كم مرة توقفت في منتصف صفحة لأتمعّن في جمال جملة مثالية؟ جملة لم تدهشك لأنها صحيحة نحويًا أو مكتملة بنيويًا، بل لأنها كانت كالصاعقة التي تكشف لك وضوح الحقيقة: أنك تحيا في عالم مضطرب بلا ضبط للوقت.
لا تسمح لذاتك أن تغرق في شعور عدمي، حتى وإن وجدت شخصيتك تذوب فجأة وسط المدنية المتعفّنة برائحة خطايا الأمس التي يتجاهلها الجميع. فالمعاني التي تخرج من أفواهنا ليست سوى معاطف تخفي داخلها أوشحة وأزرارًا لا يلمسها سوى أصابعنا نحن، نحن وحدنا في هذا العالم.
وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، شعرت بالحزن العميق للمنفى الذي أعيشه. منفى يتركك غريبًا ووحيدًا، مرغمًا على الانتباه لكل مفارقة ولكل مجاملة، حتى تلك التي لا تعير غربتك أي اهتمام أو اعتبار.
تخيل إذن، ولو للحظة، كيف ستكون حياتنا إن عشناها بلا ضبط للوقت. ربما نجد فيها معنىً أعمق، وربما نكتشف أن الزمان، مهما حاولنا تقييده، سيبقى دائمًا ظلاً يتبعنا… لا أكثر.
Comments