الاختصاصية الاجتماعية في مركز الدعم التابع لمنظمة "كفى" آلاء حمادة: اللجوء إلى القضاء ضرورة للردع
ربى ابو فاضل *
في المدارس وداخل الأسرة، على الإنترنت، وفي الشارع وأماكن العمل، في بلد يرزح تحت أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، التي زادت من هشاشة المجتمع وأضعفت شبكات الحماية، ترتكب جريمة صامته تتوارى خلف الجدران وتخترق يوميات اللبنانيين، هناك حيث تختبئ ضحايا التحرش الجنسي في خوف وصمت أثقل من الانهيارات، لا ذنب لهم سوى أنهم أطفال يتركون فريسة لصمت موجع، فيما يتسلل المعتدون مستفيدين من هشاشة القوانين، ضعف الرقابة، والخوف من الوصمة الاجتماعية.
أرقام غير رسمية تشير إلى أن أعمار الضحايا غالبا تتراوح بين 4 و11 سنة، وغالبا ما يكون الجاني قريبًا أو جارًا أو صديقًا للعائلة، ما يجعل الجريمة أكثر تعقيدًا وقسوة.
الاعتداء الجنسي على الأطفال في لبنان ليس مجرد جريمة فردية، بل هو انتهاك فاضح لحقوق الإنسان وجرح عميق يترك بصماته على الجسد والنفس والمستقبل، الاختصاصية الاجتماعية في مركز الدعم التابع لمنظمة "كفى" آلاء حمادة تؤكد " أن التحرش الجنسي يعد بداية لمراحل متصاعدة من العنف الجنسي الذي يتعرض له الأطفال دون سن الثامنة عشرة، وتشمل هذه المراحل التحرش، الاعتداء، وصولا إلى الاغتصاب.
وتوضح حمادة أن التحرش قد يظهر في صورة تلميحات كلامية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وغالبا ما يتم تحت الابتزاز أو التهديد، أما الاعتداء الجنسي فيشمل أي ملامسات حميمية غير مرغوبة، في حين يعتبر الاغتصاب أقسى أشكال العنف، حيث يجبر الطفل على ممارسة الجنس قسرا.
وتؤكد حمادة أن حماية الطفل من الاعتداء الجنسي تبدأ من البيت من خلال التوعية الكاملة للأهل والتي تعتبر خط الدفاع الأول في حماية حقوقه، فعلى الأهل تعليم الطفل أسماء أعضائه الحميمية الصحيحة لا استخدام كلمات عامية، ليعرف الطفل أنه لا يجوز لأحد الاعتداء عليه، إضافة إلى تعزيز الاستقلالية منذ الصغر، مثل الاستحمام بمفرده، استخدام الحمام، النوم، وارتداء وتغيير الملابس وحده، سواء في البيت أو الأماكن العامة، مضيفة " ابتعدوا عن الايحاءات الجنسية ولا تحدثوا الطفل بعبارات قد تجعل الأمور الجنسية تبدو عادية".
وأكدت حمادة على ضرورة احترام المسافة الشخصية للطفل مشيرة إلى أن "المسافة الآمنة تقريبا طول ذراع الطفل، وأي حوار أو تفاعل يجب أن يكون خارج هذه الدائرة" كما شددت على ضرورة مراقبة الهواتف الذكية وتحديد وقت الاستخدام، ومعرفة أصدقاء الطفل الرقميين، وتنبيهه بعدم مشاركة معلومات شخصية".
وفي حال تعرض الطفل للاعتداء، أكدت حمادة على ضرورة التعامل معه بعناية وحرص لمنح الطفل الأمان النفسي والعاطفي، وتشجيعه على الإفصاح الكامل عن تجربته، من خلال الاستماع الفعال بصبر دون لوم أو انتقاد، وإعطائه شعورا بالأمان عبر كلمات مثل: "لا تخف، أنا بجانبك وسأحميك، احكي لي كل شيء بالتفصيل" وأضافت "يجب الحفاظ على السرية بعيدا عن الإخوة أو أي أشخاص قد يلومونه، واستخدام لغة جسد مناسبة وتواصل بصري يشجع الطفل على التعبير بحرية وبناء الثقة، ويوضّح للطفل أن الموضوع سيتابع قانونيا لحمايته ومحاسبة المعتدي، مع سؤاله إن كان يريد اتخاذ إجراءات، وغالبا يجيب بالإيجاب".
بحسب حمادة، لا يبوح كثير من الأطفال بما يتعرضون له، لكن هناك إشارات جسدية ونفسية تنبّه الأهل إلى الخطر، كالخوف من أماكن معينة، صعوبة التركيز، عدم القيام بالأنشطة التي اعتاد الطفل ممارستها، العزلة والوحدة، تراجع التحصيل الدراسي، الشرود الذهني، وعدم الانخراط مع الآخرين، كما قد تظهر علامات جسدية مثل النوم المتكرر عند المراهقين، والتبول اللاإرادي عند الأطفال الأصغر سنا، أو تغير بعض السلوكيات كإطالة فترة الاستحمام، وفي حالات خطيرة، قد يلجأ الطفل إلى إيذاء نفسه أو التفكير بالانتحار إذا لم يجد من يقدم له الدعم والمساعدة اللازمة".
أوضحت حمادة أن تعافي الطفل من صدمة الاعتداء يتسارع حين يصغي الأهل إليه منذ البداية ويمنحونه الثقة والدعم، مؤكدة أن العلاج يستند إلى محاسبة المعتدي قضائيا ومتابعة نفسية متواصلة بإشراف اختصاصيين. وحذّرت من أفكار مغلوطة في المجتمع، أبرزها اعتبار التحرش "مزحة" أو حصره بالنساء الجميلات، مشددة على أن التحرش جريمة تطال الذكور والإناث على حد سواء، وختمت بالتأكيد أن المسؤولية تقع على المعتدي وحده، واللجوء إلى القضاء ضرورة لردعه وحماية الضحايا والمجتمع.
وعلى الصعيد القانوني، عززت بعض القوانين الإطار القضائي لتجريم التحرش بالأطفال مثل القانون رقم 205 لعام 2020، الذي يجرم التحرش الجنسي بشكل عام، بما في ذلك التحرش بالأطفال، مدعوماً بقوانين سابقة مثل القانون 422 لحماية الأحداث والقانون 293 للحماية من العنف الأسري، لكن رغم وجود قوانين قوية على الورق فإن ضعف تنفيذ القانون وبطء القضاء، وغياب مراكز حماية متخصصة جعلت الكثير من الاعتداءات تمر دون محاسبة.
وصادق مجلس النواب في 21 كانون الأول عام 2020 على قانون معاقبة جريمة التحرش الجنسي، ليشكل هذا التشريع الجديد نقلة نوعية في عالم التشريعات اللبنانية وتعبيرا عن التمسك بضوابط حقوق الإنسان.
مصدر قانوني أكد أن "قانون التحرش ناقص، إذ لا يوفر حماية متكاملة للضحايا ولا يفرق بين أنواع التحرش، كما أن الاستغلال عبر مواقع التواصل الاجتماعي يتطلب نصوصا أشد صرامة لما يشكله من خطورة على المجتمع".
فمع الانتشار الواسع للإنترنت والهواتف الذكية، تزايدت أشكال التحرش والاستغلال الجنسي للأطفال عبر الإنترنت، ومن منا لم يتابع قضية مغتصبي القصر "التيكتوكرز" الدولية، التي ضجت بها البلاد على شبكات التواصل الاجتماعي، ومحطات التلفزة المحلية والعربية والعالمية.
ويعرف القانون اللبناني التحرش الجنسي بأنه "أي سلوك سيء ومتكرر وغير مرغوب فيه من قبل الضحية، ذو مدلول جنسي، يشكل انتهاكا للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر، سواء كان ذلك عبر الأقوال أو الأفعال أو الإيحاءات أو الوسائل الإلكترونية، كما يشمل كل فعل أو مسعى، حتى لو كان غير متكرر، يستخدم الضغط النفسي أو المعنوي أو المادي أو العنصري للحصول على منفعة جنسية".
رغم القوانين، يبقى الصمت سيد الموقف، فهواجس "العيب" و"الفضيحة" و"خصوصيات العائلة" و"السترة" و"الشرف" تشكل حاجزاً امام الكلام العلني او التبليغ او حتى رفع شكوى قضائية لفضح الانتهاكات ضد الاولاد والاطفال وصون حقهم في العيش بأمان، فرغم كثرة القصص التي تتناقلها وسائل الإعلام عن تعرض أطفال للتحرش الجنسي، تبقى قصص أخرى طي الكتمان، حيث تشير إحصاءات غير رسمية إلى أن نحو 60% من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال لا يبلغ عنها في لبنان، هذا الصمت يحول الاعتداء إلى جرح عميق بلا دواء، فيما يواصل المعتدون جرائمهم محميين بجدار العادات والخوف.
برزت جمعيات لبنانية مثل "حماية" و"كفى"، تقدّم الدعم النفسي والقانوني للأطفال الناجين، وتعمل على التوعية داخل المدارس والمجتمعات، كما كشفت وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع اليونيسف والاتحاد الأوروبي في كانون الثاني 2025 عن رؤية تحويلية ترتكز على الوقاية وتمكين الأسر والمجتمعات، لكن هذه الجهود تبقى متواضعة أمام الحاجة إلى سياسات وطنية منهجية وبنى تحتية متخصصة لحماية الطفولة.
يشار إلى أن لبنان ملتزم بالمواثيق الدولية والإعلانات العالمية التي تكفل حماية حقوق الإنسان، بما فيها حقوق الأطفال وحمايتهم من التحرش والاستغلال الجنسي، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) الذي يضمن الكرامة الإنسانية والحماية من جميع أشكال المعاملة القاسية أو المهينة، واتفاقية حقوق الطفل (1989) التي صدق عليها لبنان عام 1991، ملزمة الدولة بحماية الأطفال من الاعتداءات الجنسية وضمان حقهم في التعبير عن آرائهم والمشاركة في القرارات التي تخصهم، إضافة إلى اتفاقيات أخرى مثل الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تلزم لبنان بتشريع قوانين وطنية متوافقة مع المعايير الدولية وتوفير آليات حماية فعّالة للأطفال والنساء.
حماية الطفولة ليست ترفا أو خيارا، بل واجب وطني وأخلاقي، فعلينا كسر الصمت، محاسبة المعتدين، وتعزيز شبكات الحماية، لإعادة الأمان إلى حياة الأطفال في لبنان، قبل أن يصبح الصمت قاتلاً أكثر من أي أزمة أخرى، فالمعركة ضد التحرش بالأطفال لا تخاض فقط في قاعات المحاكم، بل تبدأ من البيت، المدرسة، والمجتمع بأسره.
Comments