لقرائة الحلقة الاولى يرجى النقر على الرابط التالي: https://beiruttimes.com/article/48510
لقرائة الحلقة الثانية يرجى النقر على الرابط التالي: https://beiruttimes.com/article/48531
ألسفير د. هشام حمدان
أخي المواطن، كتبت في مقالتي السّابقة عن ضرورة أن نرفع معا شعار الوطن أوّلا مبينًا أنّ شعارات العروبة الثّوريّة القوميّة التي جاءنا بها الرئيس المصري الراحل جمال عبد النّاصر في خمسينيّات القرن الماضي، كانت سبب الحروب التي دمّرت لبنان، وقتلت وشردت عشرات ألوف اللّبنانيّين. من المؤسف أنّ الأحزاب التي شاركت في تلك الحرب ما زالت هي ذاتها تحكم البلاد وتحمل ذات الشّعارات. أتابع في هذه الحلقة عن هذا الواقع المرير وأسألك هل راجعت نفسك يومًا إذا انتهت تلك المرحلة فعلا؟ يبدو لي أنك تعلم أنّ تلك المرحلة لم تنته. كثيرون منّا ما زالوا يمجّدون قادة رفعوا شعارات القوميّة الثّوريّة. ولكنّك رغم ذلك، تبدو مستسلمًا لا تفكّر بالخروج منها بلّ تكرار انتخابك هذه القيادات منذ 1989، يعزّز استمراريّتها. كأني بك أخي المواطن، غير آبه بأن يشتعل الجمر تحت الرّماد فتدفع أنت أو أولادك مجددًا ثمن استسلامك المقيت لهذا الواقع.
في هذه الحلقة أسمح لنفسي أن أضع مجددًا بين يديك بعض الحقائق التّاريخيّة عن موضوع العروبة التي ما زالت بعض القوى من مخلّفات الحركة الوطنيّة أيام زمان، أو ورثة قاداتها، ترفعها وتريدك أن تستمرّ في الرّهان عليها متناسيا ما جلبته لك من ويلات ودمار وخراب.
خرج العالم بعد الحرب العالميّة الثّانية بنظام دولي جديد أساسه المفهوم اللّيبرالي، وتقوده الولايات المتّحدة. ومفهوم اللّيبراليّة الدّوليّة أخي المواطن، يعني ضرورة الإحتكام الى قواعد متّفق عليها في العلاقات بين أعضاء المجتمع الدّولي. تمّ صياغة تلك الأحكام في ميثاق الأمم المتّحدة لعام 1945. كان من المفترض مع النّظام الدّولي الجديد، أن يزول المفهوم الإستعماري، وتسود عمليّة تحرير للدّول التي تخضع للإستعمار أو للوصاية والإنتداب.
بدأت عملية تحرير الدّول. دفع الإتّحاد السّوفياتي بأحزاب شيوعيّة في معظم الدّول الخاضعة للإستعمار بحيث أنّ التّحرّر من الإستعمار يدفع بتلك الدّول إلى أحضانها. برز هذا الأمر، مع عملية تحرير إيران واليونان، وفي رسم نظام المرور في مضيقي البوسفور والدّردنيل مما خلق نزاعا بين حلفاء الحرب. إنقسم الحلفاء سريعا إلى معسكرين: شرقي يقوده الإتّحاد السّوفياتي، وآخر غربي بقيادة الولايات المتّحدة.
خشيت الولايات المتّحدة من أطماع موسكو في تركيّا وايران وصولا إلى الخليج حيث النّفط. بدأت الولايات المتّحدة مساع لإقامة تحالف بين دول تلك المنطقة (حلف بغداد)، لمواجهة الإتّحاد السّوفياتي وطموحاته. كان التّحالف يشمل بريطانيا وهي قوّة الإستعمار التي بدأت دول عربيّة وخاصّة مصر، إجراءات للتحرّر من استعمارها. كانت مصر تريد إنهاء اتّفاق يسمح بوجود قواعد بريطانيّة في السّويس. سعت الولايات المتّحدة إلى ضمّ مصر الى التّحالف بلّ إلى جعلها قاعدة هذا التّحالف. إصطدمت بمعارضة الحكومة المصريّة التي لم تفهم كيف ستشرح لشعبها عن تحوّلها من الصّراع ضدّ "الإستعمار البريطاني" إلى تحالف مع بريطانيا بحجّة مواجهة عدو لم يؤذها بشيء! تغافلت مصر عن قراءة التّطوّرات التي أعادت بريطانيا إلى مقعد خلفي في نظام العلاقات الدولية وحفظ الأمن والسّلم الدّوليّين مقابل احتلال واشنطن مقعد القيادة الدّوليّة. كانت مصر أمام فرصة تاريخيّة لإقامة واقع عربي مختلف. لكنّها لم تفعل.
تشير الدّراسات أنّ الولايات المتحدة كانت تدرك ما يقوم به الضّباط الأحرار في مصر. والتقى هؤلاء سفير أميركا للتّأكيد على أنّهم لا يحملون العداء لأميركا. تضيف البحوث أنّ واشنطن شجّعت هذا التّحرّك على أمل أن تتمكن من إغراء القيادة العسكريّة للسّير قدما في الحلف المنشود. سعت لإقناع عبد النّاصر بترتيبات تحفظ سيادة مصر في السّويس، مع بقاء القوّات البريطانيّة في قاعدتها في تلك المدينة، بغية الحفاظ على أمن القناة مخافة عدوان سوفياتي. لم تنجح بل رفع عبد النّاصر شعار التّضامن العربي من أجل التحرّر من الإستعمار، وذهب إلى مؤتمر باندونغ في إندونيسيا كأحد قادة منظمة حركة عدم الإنحياز.
ظنّ عبد النّاصر أنّ هذا الموقف يمكن أن يمنح الولايات المتّحدة ضمانة أنّ مصر لن تكون في خانة السّوفيات. لكنّ واشنطن إعتبرت منظّمة عدم الإنحياز في خانة المعادين للغرب ووسيلة لتمدّد الشّيوعيّة، خاصة أنّها رفعت مواقف محابية للإتّحاد السّوفياتي بحجّة أنّه صديق للدّول الخاضعة للإستعمار، وانتقدت بشدّة المنظومة الغربيّة بعد أن بدأت تتلكأ في منح الإستقلال للدّول الخاضعة لها إثر تبيّنها حركة الأحزاب الشّيوعيّة فيها. ردّت بريطانيا ومعها فرنسا بترتيب عمليّة إسرائيليّة تبرر تدخّلهما لحماية قناة السّويس. تدحرج الموقف من خلال قيام مصر بشراء أسلحة من المعسكر الإشتراكي. دخلت مصر في لعبة الصّراع السّوفياتي الأميركي. تبع القادة اللّبنانيّون والعرب اليساريّون والإسلاميّون هذا التّوجّه المصري. كانت حركات الإنقلاب في سوريّة والعراق التي جاء بحزب البعث إلى الحكم. وكذلك ثورة كمال جنبلاط عام 1958، ثمّ الأحداث التي تبعت هزيمة حزيران 1967 التي أشرنا إليها في المقال السّابق.
أخي المواطن، ما زلنا في هذه الدّوامة. فعلى الرغم من أنّ أهل العروبة أنفسهم رفسوا هذا المفهوم منذ زمن وتوقّفوا عن الحديث عنه، واستبدلوه بمفهوم المصالح المتبادلة، وكثيرون منهم خرجوا من هذا المفهوم وأقاموا علاقات مع إسرائيل، إلّا أنّ قاداتنا الحزبيّة ما زالت مصرّة على العروبة. وما يثير جزعنا أنّ هؤلاء باتوا يؤطرون عروبتهم في الشّعارات الدّينيّة التي برزت أخيرا. جانب من هؤلاء القادة تمسّك بشعاراته وانتقل إلى ضفّة حزب الله الإيراني رغم كونه حزبا إيرانيّا يحمل إيديولوجيا مذهبيّة شيعيّة أصوليّة فاضحة، بحجّة أنّه مقاومة ضدّ إسرائيل، والبعض الآخر، سار طوعا في الآليّة التي رسمها ذلك الحزب لمن لا يسير في ركبه مباشرة، إلى أن انتقل سريعا إلى ضفة الأخوان المسلمين بعد تراجع إيران وحزبها، وتقدّم دور تركيّا وحزبها: حزب "ألأخوان المسلمين".
كلّ هؤلاء أخي المواطن، كرّروا ويكرّرون الخطيئة ذاتها التي ارتكبها كمال جنبلاط وقادة الحركة الوطنيّة في سبعينيّات القرن الماضي. فقد وضعوا جانبا موضوع الإصلاح السّياسي الوطني واندفعوا لقيادتك مجدّدا في لعبة الصّراع الإقليمي جاعلينك مرّة أخرى، رهينة الحالة الإقليميّة، وواضعين مستقبلك ومصيرك بإيدي من هم خارج حدودك وطنك.
ترى هل تفكّر بهذا الأمر عندما تضع صوتك في صندوق الإقتراع؟
Comments