bah من التحرر إلى الاستعمار: المشروع الصهيوني من النكبة إلى التطهير - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

من التحرر إلى الاستعمار: المشروع الصهيوني من النكبة إلى التطهير

09/08/2025 - 17:16 PM

Prestige Jewelry

 

 

مازن الجعبري - القدس المحتلة

 

في الرابع عشر من أيار 1948، أُعلن قيام دولة إسرائيل عبر وثيقة الاستقلال، حيث تضمنت سردية تبدو للوهلة الأولى تحررية: شعب مُهَجَّر يعود إلى أرضه التاريخية بعد معاناة تاريخية من الاضطهاد، مُعلناً قيام دولة تدعي "الحرية والعدالة والسلام كما تصورها أنبياء إسرائيل"، وتضمن "مساواة كاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس". إلا أن قراءة نقدية لهذه الوثيقة، مقترنةً بتحليل تصريحات مؤسسي الصهيونية والممارسة الفعلية للكيان على الأرض، تكشف عن تناقض صارخ بين الخطاب والممارسة، وتحول جوهري من مشروع استعماري استيطاني يدعي التحرر والخلاص من الاضطهاد الاوروبي، إلى نظام فصل عنصري متطرف (أبارتهايد) عضويّ الارتباط بالإمبريالية الغربية.

فقد سبق تأسيس الدولةَ خطابٌ استعماري واضح، فقبل ثيودور هرتسل، صرّح ناثان بيرنباوم، وهو أول من استخدم مصطلح الصهيونية عام 1890، بأن الهدف هو "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، حتى لو تطلّب الأمر دعمًا من القوى الاستعمارية". هذه الرؤية، التي لا تختلف في جوهرها عن أي مشروع استعماري، تتعارض جذرياً مع الادعاءات الواردة في وثيقة 1948 عن "إحلال البركة لجميع سكان البلاد".

وتأتي مقولة ثيودور هرتسل، الأب الروحي للدولة، في مذكراته عام 1895 لتكشف النية الحقيقية للمشروع: "يجب أن نحاول دفع السكان الفقراء عبر الحدود... عملية المصادرة ونقل السكان الفقراء يجب أن تتم بحذر وحساسية". والأكثر دلالةً، مناشدته لسيسيل رودس، مهندس الاستعمار البريطاني في أفريقيا: "اطلب منك أن تساعدني في تحقيق مشروعي... هو مشروع استعماري". وهكذا، ينسف هرتسل بنفسه أي ادعاء بأن الصهيونية حركة تحرر وخلاص لليهود، ويؤسس لشراكة عضوية مع المشاريع الإمبريالية.

لم تكن نكبة 1948 وطرد أكثر من 750 ألف فلسطيني حدثاً عارضاً، بل كانت التتويج المنطقي لهذه الرؤية.  دافيد بن غوريون، المهندس الرئيسي للدولة والموقع على الوثيقة، صرّح في عام 1937 "سننقلهم جميعاً إلى الدول العربية، ولا نترك قرية واحدة، ولا قبيلة واحدة". وفي عام 1948، أوضح الآلية قائلاً: "يجب أن نستخدم الإرهاب، والاغتيالات، والتخويف، وحرق المحاصيل، لإفراغ القرى العربية من سكانها". هذه التصريحات تتعارض مع المبادئ المعلنة في وثيقة الاستقلال، الذي "يمتدح يد السلام وحسن الجوار لجميع الدول المجاورة وشعوبها"، و"ينادي المواطنين العرب في الدولة بالحفاظ على السلام والمشاركة في البناء على أساس المساواة في المواطنة". لقد كان خطاب الوثيقة، في جوهره، غطاءً أيديولوجياً لتمرير أكبر عملية تطهير عرقي في الشرق الاوسط.

وبعد قيام الدولة، لم يتحول الكيان إلى "دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها" كما زعمت الوثيقة، بل أسس لنظام فصل عنصري قانوني. فـ قانون العودة (1950)، الذي يمنح أي يهودي في العالم حق المواطنة، مقابل حرمان اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة إلى ديارهم، هو تشريع عنصري ينقض ضمان "المساواة الكاملة" المذكور في الوثيقة. وقد بلغ هذا النظام ذروته مع إقرار "قانون القومية" (2018)، الذي يكرس تفوق اليهودية على الديمقراطية ويهمش رسمياً المواطنين الفلسطينيين، وهو ما عبّر عنه بنيامين نتنياهو بقوله: "إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها... إنها الدولة القومية للشعب اليهودي وحده". وهذه هي النهاية المنطقية لمشروع عنصري، يتخلى حتى عن الادعاءات الليبرالية الزائفة التي رفعها عند تأسيس الكيان.

ولإدامة هذا المشروع، اعتمد الكيان الصهيوني على استعارة إمبريالية، تسويق اسرائيل كحصن للغرب وحضارته في مواجهة "الهمجية" و"البربرية" المزعومة للشعوب الأصلية. يقول نتنياهو في أحد خطاباته: "نحن بؤرة الاستقرار في منطقة مليئة بالهمجية... نحن ندافع عن قيم الغرب على خطوط الجبهة"، ويصف الفلسطينيين بأنهم "برابرة يهددون الحضارة". هذا الخطاب لا يهدف فقط إلى كسب الدعم الغربي، بل أيضاً إلى تشويه المقاومة المشروعة للاحتلال وتحويلها من نضال تحرري إلى إرهاب.

لم يعد هذا الخطاب المتطرف حكراً على الهامش، بل أصبح في صلب الحكومة الإسرائيلية الحالية وسياساتها الفعلية. فوزير المالية المتطرف الاوكراني بتسلئيل سموتريتش، أحد أبرز أعضاء الائتلاف الحاكم، صرّح في آذار/مارس 2023 قائلاً: "يجب أن تُمحى قرية حوارة الفلسطينية"، في أعقاب عمليات إعدام ميدانية واعتداءات واسعة على السكان من قبل ميليشيات المستوطنين. بل إن سموتريتش نفسه، الذي يشغل أيضاً منصباً وزارياً في جيش الاحتلال، أعاد التأكيد على هذا النهج خلال زيارته لمستوطنة "أرئيل" غير القانونية في الضفة الغربية المحتلة في 28 أيار 2024، قائلاً: "الضفة الغربية هي قلب أرض إسرائيل التاريخية، ولن نتنازل عن شبر واحد منها"، داعياً إلى "تسريع وتيرة البناء في المستوطنات وتطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنين".

هذا التصريح ليس سوى استمراراً للخطاب الاستعماري الذي بدأه هرتسل وبن غوريون، والذي تجسّد عملياً في الحرب الشاملة على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والتي تُشكِّل حلقة جديدة في مسار التطهير العرقي الممنهج الذي بدأ منذ النكبة ؛ حيث لم تتوقف عمليات القصف الممنهج للمدن والأحياء السكنية والبنى التحتية، وحصار المساعدات الإنسانية، واستهداف المستشفيات والمدارس، مما أدى إلى سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ونزوح أكثر من 90% من السكان، في محاولة واضحة لتحقيق هدف التهجير القسري الجماعي واستكمال مخطط إفراغ الأرض من سكانها الأصليين. وهكذا، يجسد المشروع الصهيوني حقيقته التي لم تتغير، التوسع على حساب الأرض الفلسطينية وإنكار حقوق شعبها، من النكبة إلى يومنا هذا.

هذه التصريحات والممارسات ليست انحرافاً عن المسار، بل هي تعبير صريح عن الجوهر الحقيقي للمشروع الصهيوني، الذي لم يعد يحتاج حتى إلى الأقنعة التي تظاهر بها في وثيقة إستقلاله. لقد أسقطت سنوات القمع المتواصلة والعدوان الوحشي القناع عن الرواية الصهيونية، فلم تعد قادرة على إخفاء حقيقة الكيان الاستعماري العنصري خلف شعارات الديمقراطية الزائفة. لقد تحولت الصورة العالمية لإسرائيل من "واحة الديمقراطية" إلى دولة أبارتهايد، بينما اكتسبت الرواية الفلسطينية شرعية متزايدة كقضية تحرر إنسانية عادلة.

لم يعد العالم ينظر إلى الصراع من خلال عدسة الدعاية الصهيونية التي تختزل الفلسطيني في صورة "الإرهابي"، بل أصبح يرى بوضوح مشاهد التهجير والابادة التي تكشف زيف ادعاءات "الجيش الأكثر أخلاقية" ومبرر "الدفاع عن النفس". لقد سقطت الأسطورة الصهيونية، وأصبحت الحقيقة الفلسطينية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، أن هذا الصراع هو في جوهره معركة شعب من أجل تحرر أرضه من آخر أنظمة الاستعمار الاستيطاني في العصر الحديث.

 

* كاتب ومحلل سياسي

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment