بقلم: لبنى عويضة...
لم تكن الرصاصة التي خرقت عنق تشارلي كيرك مجرد فعل اغتيال سياسي، بل كانت لحظة انفجار في صلب المجتمع الأميركي.
أن يسقط أبرز وجوه اليمين الشعبوي داخل قاعة جامعية بالتزامن مع إحياء ذكرى 11 سبتمبر يعني أن التاريخ نفسه قرر أن يعيد عرض مأساته بنسخة أكثر سوداوية. بالأمس اخترقت الطائرات الأبراج، واليوم رصاصة تخترق الداخل، والفارق أن العدو لم يعد غريبًا خلف البحار، بل خرج من رحم المجتمع الأميركي ذاته، لتصبح اللحظة مرآة سوداوية لتاريخ لا ينتهي.
من هو تشارلي كيرك؟
تشارلي كيرك لم يكن ناشطًا سياسيًا عاديًا، بل أحد وجوه اليمين الشعبوي الأكثر تأثيرًا بين الشباب الأميركي. أسس حركة Turning Point USA التي نجحت في زرع أفكار المحافظين في الجامعات والمجتمعات الطلابية، وجعل صوته حاضرًا في كل وسائل الإعلام الرقمية والتقليدية. مكانته لم تكن رمزية فقط، بل عملية، إذ استطاع تحريك قواعد انتخابية شابة ودفعها للمشاركة السياسية الفاعلة، ما جعله شخصية قيادية ذات تأثير مباشر على الساحة الأميركية. لهذا السبب، لم يمر اغتياله مرور الكرام، بل أمر ترامب بتنكيس الأعلام حدادًا عليه، واعترافًا بما مثّله من رمز للحرية الفكرية وفق منظوره، وكمشهد سياسي يرمز إلى فقدان أحد أهم أدوات تعبئة اليمين الشعبوي.
11 سبتمبر: الجرح المؤسس
لم يكن 11 سبتمبر 2001 مجرد حادث أمني، بل جرحًا مؤسسًا أعاد صياغة هوية الدولة الأميركية. السياسة الخارجية انطلقت نحو الحرب على الإرهاب، فتحولت أميركا من دولة رسالية إلى إمبراطورية عسكرية تستنزف مواردها في الشرق الأوسط، بينما في الداخل تشكلت “دولة الأمن”، وتحول المواطن من فرد صاحب حقوق إلى كائن مراقب دائمًا. وفي الوعي الجمعي، نشأ خطاب الخوف من الآخر والغريب والمختلف، خطاب ظل يحرك السياسات حتى بعد عقدين. الأبراج لم تسقط فقط، بل أسقطت معها التوازنات الدولية، فغيّرت أولويات الدول الكبرى، ودفعت أميركا لحروب طويلة، وخلقت نظامًا عالميًا قائمًا على الأمن والمراقبة والخوف من الآخر. اليوم، اغتيال كيرك يحمل رمزية مشابهة على المستوى الداخلي، لكنه قد يمتد تأثيره عالميًا، لأنه يعكس تصاعد الانقسامات داخل أعظم قوة اقتصادية وسياسية، ما قد يعيد تشكيل تحالفات ويؤثر على الاستقرار الدولي، ويجعل الرصاصة التي أودت بكيرك لها صدى عالمي محتمل.
يمكن القول إذن إن 11 سبتمبر لم يغيّر السياسة الأميركية فقط، بل غيّر طبيعة الدولة نفسها.
الانقلاب الداخلي
اغتيال كيرك يعكس مسارًا معاكسًا؛ فالخطر لم يعد خارجيًا، بل صار في صميم الداخل الأميركي. الرصاصة لم تأتِ من جبال بعيدة، بل من مبنى مطل على الفعالية، وهو تحول يكشف أن ما بدأ عام 2001 كحرب على الإرهاب قد ينتهي عام 2025 كحرب أهلية باردة وربما ساخنة داخل الولايات المتحدة نفسها.
الدم كرأسمال سياسي
الدم في أميركا لم يعد مادة للنسيان، بل مادة للاستثمار. ترامب وأنصاره أطّروا كيرك كـ”شهيد الحرية” لصناعة وقود حملاتهم، بينما خصومهم رأوا فيه نتيجة طبيعية لخطاب الكراهية اليميني، أما الدولة فستستغل الفوضى لتشديد القبضة الأمنية كما فعلت بعد 2001، وهكذا يتحول الدم الأميركي إلى عملة سياسية يعاد تداولها باستمرار.
الجامعة كساحة اختبار
المكان الذي وقع فيه الحادثة له دلالته العميقة؛ فالجامعة لم تعد مجرد فضاء للتعليم والحوار الحر، بل أصبحت ساحة اختبار للولاءات السياسية، حيث يتحول الاختلاف الفكري إلى تهديد أمني، ما يعكس أزمة أعمق في سوسيولوجيا الرأي العام الأميركي، الذي لم يعد يحتمل التعددية، بل ينزلق نحو منطق الإلغاء المادي.
ما بين الجرحين
إذا قارنا بين الجرحين، نجد أن 11 سبتمبر 2001 كان العدو فيه خارجيًا وواضحًا، ما سمح بتوحيد الجبهة الداخلية، بينما في 2025 العدو داخلي وضبابي، يلبس وجه الجار أو الطالب أو السياسي المختلف، وهذا أخطر بكثير لأنه يفتت العقد الاجتماعي بدل أن يوحده. إذا كان 11 سبتمبر الأول قد فتح بوابة الحرب على الإرهاب، فإن 11 سبتمبر الجديد قد يفتح بوابة الحرب على الذات.
السيناريوهات المستقبلية
تلاقي العنف والذاكرة يفتح مسارات متعددة: تصعيد الاستقطاب قد يحول كل دم جديد إلى مبرر لمزيد من الدم، بينما قد تستخدم الدولة منطق ما بعد 2001 لفرض مراقبة أشد على الداخل، ومع استمرار العنف قد تنكسر الثقة بالمؤسسات، ويتحول النظام السياسي الأميركي إلى نسخة محدثة من “جمهورية فايمار”، مقدمة لفوضى أوسع وأكثر عمقًا.
التاريخ كجرح مفتوح
التاريخ لا يرحم، ومنذ 2001 والولايات المتحدة تعيش في مدار جرح لم يلتئم. اغتيال كيرك لم يفتح جرحًا جديدًا وحسب، بل أعادنا إلى الجرح القديم، ليثبت أن 11 سبتمبر لم يكن لحظة وانتهت، بل بداية زمن دموي مستمر. ومن نيويورك إلى يوتا، يبقى الدم الأميركي شاهدًا على أن القوة العظمى الأولى في العالم قد لا تُهزم من أعدائها، بل من نفسها.
نشر في جريدة الرقيب الالكترونية ايضاً
Comments