القدس المحتلة - مازن الجعبري
منذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، لم تكن السياسات الصهيونية تجاه الفلسطينيين مجرد ردود فعل أمنية، بل كانت جزءًا من مشروع استعماري ممنهج يستند إلى رؤية أيديولوجية ترى في الفلسطينيين عقبة ديموغرافية يجب التخلص منها، هذه الرؤية، وإن اختلفت في الشكل عن النازية، إلا أنها تتقاطع معها في الجوهر، التطهير العرقي، التهجير، الإبادة، والعنصرية المؤسسية.
وتجسدت هذه الرؤية بشكل مأساوي في أحداث عام 1948، لتي أدت إلى طرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم، في عملية تطهير عرقي عرفت بالنكبة، لم يكن ذلك نتيجة حرب دفاعية، بل سياسة مدروسة وثقتها مؤسسات بحثية ومؤرخون إسرائيليون مثل إيلان بابيه، الذي وصف ما جرى بأنه تطهير عرقي منظم. وكانت "خطة دالت" التي أقرّتها قيادة الهاجاناه في مارس 1948، هي الوثيقة العسكرية التي وضعت الأسس العملية لطرد الفلسطينيين، نصّت الخطة على السيطرة على القرى والمدن الفلسطينية، وتدميرها إن لزم الأمر، وترحيل سكانها بالقوة، وقد نفذت هذه الخطة عبر مجازر مثل دير ياسين، اللد، والرملة، بهدف إرهاب السكان ودفعهم إلى الهروب، لتفريغ الأرض من أهلها لصالح المشروع الاستيطاني.
ما يجري اليوم في غزة لا يمكن وصفه إلا بأنه برنامج إبادة جماعية، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني منذ عام 2007 تحت حصار خانق، يتكرر خلاله شن هجمات عسكرية تستهدف المدنيين والبنية التحتية، وقد أسفرت الهجمات الحربية التي بدأت في السابع من أكتوبر عن مقتل أكثر من 64000 فلسطيني، أغلبهم من الأطفال والنساء، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.
هذه الإجراءات ترافقها وتُبررها خطابات تحريضية صادرة عن مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى. ففي تصريح يعكس تصاعد الخطاب الإقصائي داخل المؤسسة الإسرائيلية، وصف وزير الدفاع السابق يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية", كما صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في مارس 2023 بأنه "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، هذا اختراع عمره أقل من 100 عام". في السياق ذاته، قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتصوغ في أكتوبر 2023: “الخطاب القائل بأن المدنيين غير متورطين غير صحيح.”
هذه التصريحات تعكس توجهًا إنكاريًا للتاريخ والهوية الفلسطينية، ويُستخدم لتبرير سياسات الضم والتطهير العرقي، يُذكرنا هذا الخطاب التحريضي، الذي يشيطن جماعة بشرية ويبرر قتلها، بخطابات الكراهية في ألمانيا النازية، حيث وصف يوزف غوبلز اليهود بأنهم "فيروس يجب استئصاله"، بينما اعتبر هاينريش هيملر أن "القضاء على اليهود هو تطهير ضروري لأوروبا". يتكرر هذا النمط من الخطاب اليوم في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين.
في عام 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي "قانون القومية اليهودية"، الذي ينص على أن "إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي"، ويمنح اليهود وحدهم حق تقرير المصير، هذا القانون يتعمد تجاهل الفلسطينيين المواطنين في الداخل، ويشرعن التمييز ضدهم لأنهم غير يهود. هذا النوع من التشريع يُذكّر بقوانين نورمبرغ النازية التي حرمت اليهود من الجنسية والزواج المختلط، وأسسّت للفصل العنصري في ألمانيا.
الحكومة الإسرائيلية تبرر كل عدوان على الفلسطينيين بأنه دفاع عن النفس، تمامًا كما بررت النازية حملاتها ضد اليهود بأنها حماية للأمة الألمانية. لكن الواقع يكشف أن هذه المبررات تُستخدم لتغطية سياسات ممنهجة للتهجير والقتل. في عام 2024، كشفت تقارير صحفية عن تشكيل وحدة داخل الجيش الإسرائيلي تُسمى "هيئة الترحيل"، مهمتها دراسة آليات ترحيل الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، تحت غطاء "إعادة التوطين الطوعي". هذه الهيئة تُعيد إلى الأذهان وحدات الترحيل النازية التي كانت تنقل اليهود إلى معسكرات الموت تحت غطاء "إعادة التوطين في الشرق".
في الضفة الغربية، تنشط ميليشيات المستوطنين تحت حماية الجيش، وتنفذ اعتداءات يومية على الفلسطينيين، تحرق المنازل، وتقتل المدنيين، وتستولي على الحيز الفلسطيني، هذه الميليشيات تُشبه في دورها ميليشيات "SS" النازية، التي كانت تنفذ سياسات الدولة خارج الإطار الرسمي. ان التحريض الإعلامي والسياسي ضد الفلسطينيين، وتسهيل حصول المستوطنين على السلاح، يعكس تواطؤًا مؤسسيًا في تنفيذ مشروع التهجير والتطهير العرقي.
لا يقتصر الدعم الأمريكي لهذا المشروع على التمويل العسكري والسياسي فحسب، بل يمتد ليشمل التغطية الدبلوماسية في المحافل الدولية وعرقلة أي تحقيق مستقل في جرائم الحرب. فمنذ بداية الحرب، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات على الأقل ضد قرارات أممية تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، وكان آخرها في فبراير 2024 ضد قرار يحذر من الهجوم على رفح. هذا التناقض الصارخ، حيث تُصدر بعض الحكومات الغربية بيانات التنديد بينما تواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة، يُذكّر بتواطؤ حكومات أوروبية مع السياسات النازية في ثلاثينيات القرن الماضي. فمثلما غضّت بريطانيا وفرنسا الطرف عن عدوان هتلر عبر سياسة الاسترضاء في مؤتمر ميونخ 1938، واستمرت السويد وسويسرا في تزويد الصناعة الحربية الألمانية بالمواد الخام تحت غطاء الحياد، نرى اليوم تكرارًا لهذا النموذج من التواطؤ. لقد قدّمت تلك الحكومات آنذاك المصالح السياسية والاقتصادية على المبادئ الإنسانية، تمامًا كما تفعل اليوم حكومات غربية تُصدر بيانات الاستنكار بينما تظل ذراعها العسكري والاقتصادي داعمًا أساسيًا لاستمرار العمليات العسكرية، مما يُمكّن من استمرار المأساة الإنسانية ويُعمقها في غزة.
الصمت الأوروبي تجاه ما يجري في غزة يُعد مشاركة غير مباشرة في الجريمة. رغم التقارير الأممية التي تصف ما يحدث بأنه إبادة جماعي، لم تتخذ معظم الدول الأوروبية خطوات جدية لوقف العدوان أو فرض عقوبات على إسرائيل. بل إن بعض الحكومات، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، قامت بقمع التظاهرات المؤيدة لفلسطين، واعتبرت رفع العلم الفلسطيني تحريضًا، في مشهد يُذكّر بتواطؤ بعض الأنظمة الأوروبية مع النازية. ومع ذلك، لا بد من الإشادة بمواقف شجاعة اتخذتها دول مثل إسبانيا، أيرلندا، وبلجيكا، التي عبّرت عن رفضها للعدوان، وعلّقت بعض أشكال التعاون العسكري مع إسرائيل، وطالبت بتحقيق دولي في جرائم الحرب، كما أعلنت الحكومة الإسبانية دعمها لاعتراف أوسع بدولة فلسطين، في خطوة رمزية لكنها تحمل دلالة سياسية مهمة في مواجهة التواطؤ الدولي.
أما الشارع الأوروبي، فقد أثبت أنه أكثر وعيًا وإنسانية من بعض حكوماته. ففي لندن، باريس، برلين، ستوكهولم، ودبلن، خرجت مظاهرات حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف، تنديدًا بالإبادة الجماعية في غزة، ومطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل. رفع المتظاهرون شعارات مثل "الحرية لفلسطين"، و"أوقفوا القتل"، و"نتنياهو مجرم حرب"، في تعبير واضح عن رفضهم للسياسات الاستعمارية، وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني المحاصر.
أما الجامعات والشركات الغربية، فقد تورطت بشكل مباشر في دعم الاحتلال. وفقًا لتقارير منشورة، فإن الاتحاد الأوروبي قدّم أكثر من 1.28 مليار يورو للجامعات الإسرائيلية ضمن برامج بحثية، رغم أن هذه الجامعات تشارك في تطوير تقنيات عسكرية تُستخدم في قصف غزة. كما أشار تقرير إلى أن مؤسسات أكاديمية مثل جامعة أريئيل، المقامة على أراضٍ محتلة، تُستخدم لتعزيز الاستيطان، وتحظى بشرعية أكاديمية رغم مخالفتها للقانون الدولي. وتورطت شركات دولية في بناء المستوطنات، وتطوير تقنيات مراقبة وقمع تُستخدم ضد الفلسطينيين، في مشهد يعكس تواطؤًا اقتصاديًا وأكاديميًا مع المشروع الاستعماري.
من المفارقة أن المشروع الصهيوني، الذي تأسس على أنقاض المحرقة، يُمارس اليوم سياسات تشبه تلك التي عانى منها اليهود في أوروبا. إن ما يجري في فلسطين ليس مجرد احتلال، بل نظام عنصري استعماري يجب أن يُدان بنفس المعايير التي أُدين بها النظام النازي، إن المقارنة بين النازية والصهيونية ليست بلاغية، بل ضرورة سياسية وأخلاقية لكشف جوهر المشروع الصهيوني، ومطالبة العالم بمحاسبته على جرائمه.
* كاتب ومحلل سياسي
Comments