د. خالد زغريت
( العاصي: اسم نهر ينبع من بقاع لبنان، ويمر بسورية، متدفقاً بشكل معاكس، صار لمدة أربعة عشر عاماً دمعاً يغسل وجه حمص التي تمزقه القذائف).
مَن يُؤثمُ العاصي فلا ماء يطهره، إياكَ أنْ تنسى يا صاحبي في حمص يقف العاصي على ساق الهواء، ليَسندَ الزرقة كي لا تنحي في السماء. ولم تمرّ روحي على أيام حمص كما تمرَ الريح، على أنّ في ألواح ذاكرة حمص من العصيان ما يجعل العاصي واقفاً على ساق الهواء.
منذ بدء التكوين يحرس عشقها للريح بالصفصاف والتوت البري الذي ما زال يغني بحمرته دمَ "ورد" و"ديك الجن " يكتب على الهواء:
قولي لطيفك ينثني عن مضجعي عند الهجوع
فعسى أنام فتنطفئ نار تأجج في الضلوع
لكن الكلام لا يكتب على الهواء، فيحف بالتوت الأحمر كي يلون صدى ديك الجن فيه.... ولي في قلب حجارة حمص خفقات، رسمتْ ظلالها على هديل حمام الجوامع، وجرس النواقيس الذي يوقظ حبراً في الروح لا تمحوه الأحلام، فيتدّلى من آذان التاريخ هواء الوجود الذي تتسلّقه الرّوح إذا ضاق الفضاء، ولحمص أن ترسم أربعاءها على شفة الزمن الذي لا منازل في منازله إلا لمن تغرّب ليس مستعظماً إلا أربعاءه.
وكانت حمص أمّاً تعرف نكتة أمومتها في التاريخ، فما عقَّها ابنٌ إلا انتحر شوقاً إليها بضفيرة زنوبيا، أو بعَصيَ دمع "أبي فراس الحمداني"، أو بأغنية "عبد الباسط الصّوفي"، وهمزات "رفيق فاخوري" ....
حمص تعرف أنها أمُّ مَن لا أمَّ له ...في كلّ عصر تمدّ بساط ماضيها في ظل سروات "جنينة الدبابير" ليشرب الجالسون على مقهى" الفرح" حليب عصافيره، وينفثون من قاع الروح زقزقة حنين ضبابي، يتكىء على عكازة الأنين نحو طريق الحرير إلى الصمت.
وكل مساء تتوسّد حمص أريكة ماضيها تحصى خطا كلّ مَن مرّوا، تَرى ضوء حليبها في دمهم فلا تضلّهم حتى لو ولدتْ لكلّ واحد منهم أربعين شبيهاً، وتسمع وقع أقدامهم فتسميهم بأسمائهم، حمص تعرف أعزاءها من شَعْر أحزانهم، وسواد عيون أسرارهم، فتمدّ لهم كفّها ليعرف كلّ ياسمينة في خطوطها، فينام بعطرها ويتظلّل ببياضها.
فكيف لكّ ألا تمدّ لنا كفك وأنتَ تلوّح لنا بالغياب، لكي نقرأ بصمات ضحكات أيامنا في إبهام ذاكرتك، وأنتَ ترحل تعرف أن صفحة ما طويت من دفاتر عمرنا وأن النسيان الذي -في كل الفصول في عيوننا لم تعلّمنا إياه حمص، هكذا يمضي العمر والمسافة بين الخطوتين -كأنما لم ترسم أحلامك نخلاً لا يرويها عاص، ولا تسعها كل قطارات العمر
وكأنّما لم تكتب كلمات لي، لم تعد تميّزها من أنجم حمص، وكأنما لم تحص الحروف في أفواه القرى النائية، وأنتَ تقول: تذكّرْ في تلك اللحظة، وفي تلك اللحظة أحوج ما أكون للتذكّر، كأنك لم تجلس على مقعد الحلم فتتركه فارغاً.
وكان حرّياً بحمص ألا تحصي أبناءها، كي لا تطول حبال المراثي، وأزقة الروح في الوداع البسيط، وكان حرّياً باللغة العربية أن تحصي عشقها وسدنة روحها الحرة وحرّي بنا أن نكتب أن القلب ما زال هنا في جناس لغة التلاميذ مع الشغب الحلو، ما زالتْ نبضاتك عالية كالسرو الذي لا ينحني فارغاً في دفتر الإنشاء، وما زال صوتك في رنين جرس الحصة السادسة..
وما زال غبار الطباشير يميّز ملامح الوردة التي رسمتها ظلالاً ثم محوتها، فلا تنقضها ريح الأيام التي بصمتْ أصوات التلاميذ، وهم يرددون عن ظهر قلب درس المحفوظات، ويختمون مراحلهم بالغياب عن خاطر الأيام وهم ينشئون العاصي في بدفاترهم مذيلاً بتوقيعك، فما أجمل أن يْذيّل العاصي إنشاءه بتوقيعك0
كم يا أيها العاصي غسلوا آثامهم فيك.. وكم آثموكَ، مَن يُؤثم العاصي فلا ماء يطهره... لا ماء ...لا ماء، لكن الأيام كموج يا أيها العاصي تمضي ولا تعود، ولا تتكرر، ونحن نجمع حنيننا، ولكي يضيع في زحمة المآسي نحفره على موج العاصي.
Comments