م. ميشال كلاغاصي
من المعروف أن التحالفات والأحلاف الدولية والعلاقات الثنائية أو المتعددة بين الدول تكون بطبيعتها قابلةً للتغيير ولا تتمتع بصفة الأبدية، وغالباً ما تتشكل وتتفكك تبعاً للمصالح المشتركة للدول، بإعتبارها تخضع لتغير الأولويات السياسية والإستراتيجية، والمصالح وموازين القوى والعلاقات بين الدول، والتي يمكنها أن تتحول إلى صيغ وتحالفات جديدة، تلجأ إليها الدول لتحقيق أهدافها.
فقد شهد العالم إنهيار العديد من الأحلاف الدولية القديمة كحلف وارسو وحلف بغداد، وصمود بعضها الاّخر كحلف شمال الأطلسي، كذلك يشهد اليوم ظهور أحلاف جديدة لا زالت في طور التشكل، مع بداية عصر المحيط الهادئ، وانتقال مركز العالم إلى شرق أوراسيا، بالتوازي مع الإهتزازات الجوهرية والجيوسياسية الكبيرة التي تشهدها حالياً "الشراكة المتوحشة" التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بين دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، الأمر الذي قد يضع نقطة بداية النهاية لحلف الناتو، ويدفع كلا الطرفين للبحث عن مصير وشكل جديد للعلاقات بينهما، في وقتٍ تسعى فيه بعض الدول للحفاظ على ما تبقى من النظام العالمي القديم أحادي القطبية، وأخرى تجتهد وتساهم في ولادة النظام العالمي الجديد المتعدد القطبية.
وبالنسبة لدول الغرب الأوروبي، فقد تبين مع مرور الوقت أن انغماسها في حلف الناتو، لم يحقق لها طموحاتها وأهدافها، بعدما فقدت سيادتها واستقلالية قرارها كقوى استعمارية منذ إعلان خطة مارشال، ولم يبرر اندفاعها الكلي نحو العولمة، ورغم مضاعفة أرباحها التي كسبتها في المرحلة الإستعمارية، لكنها لا تزال تتمسك بدعم الإستعمار الجديد بكافة أشكاله، والقبول بالهيمنة الأمريكية وبعربدة بعض الدول الوظيفية والكيانات المارقة، وارتضت لنفسها أن تتحول إلى قارة عجوز، مهمشة تابعة، كنتيجة طبيعية لسياسة قادتها الذين ساروا في ركب السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إلى وجدوا أنفسهم أمام "شواطئ" عالمٍ جديد مركزه حوض المحيط الهادئ، والذي يَصعب فيه استمرار القبول بالهيمنة الغربية، الأمر الذي جعلها تستوعب عمق تراجعها، وخطورة الطريق الذي سارت عليه، وبات استرجاع هويتها يشكل هاجساً وضجيجاً توجَبَ عليها كتمه، قبل أن تُترجمه شعوبها غضباً واحتجاجاً وشغباً وفوضى، كما يحدث حالياً في فرنسا.
ومع تفاقم الخلافات وتباعد الرؤى والمصالح الأوروبية مع الولايات المتحدة، وشعورها بالحاجة الماسة للبحث عن الذات والهوية، والرغبة بتغير المسار أو فصله عن الشريك المهيمن، وسط محاولات ماكرون تحميل حلف الناتو مسؤولية الصراع في أوكرانيا، في حين يجد الإتحاد الأوروبي نفسه عاجزاً، وبلا قدرات لوجستية وموارد طبيعية هامة، تكفي شعوبه وملايين اللاجئين، الأمر الذي دفع الإتحاد ودوله للتفكير الجدي بالمصير القادم، وفي جدوى الإستمرار بدعم واشنطن والنظام العالمي القديم، وهو يراقب قمة منظمة شنغهاي للتعاون مؤخراً، وتأكيد الرئيس بوتين على ضرورة "زوال النظام أحادي القطب"، بالإتفاق والتوافق التام مع زعماء الهند والصين وكوريا الشمالية وغيرهم.
في وقتٍ لا تعلم فيه أوروبا حقيقة التفاهمات في قمة ألاسكا، وحقيقة التوجه الأمريكي الجديد نحو التمسك أو التخلي عن النظام القديم وتحالفاته السابقة، أدركت شعوبها وغالبية أحزابها ونخبها فداحة انسياق النخب الفاسدة والقادة الأوروبيين الأشرار وأصحاب المصالح الشخصية والمرائين وقصيري النظر، وبدأ الأوروبيون عموماً يدركون فظاعة الدور الهدام لبعض القادة والمسؤولين كرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وسعيها وراء السلطة والمصالح الشخصية، وباتوا يرون في إبعادها ضرورة ماسة، رغم الدعم الذي تتلقاه من الفرنسي ماكرون الذي بدوره بات يقف على أعتاب إسقاطه، عبر ترشيحها لرئاسة ألمانيا عام 2027، على غرار إبعاد وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، عبر توليها منصب الأمين العام للأمم المتحدة ، إذ يعتبر كلا المنصبين شرفيين لا أكثر.
وبالرغم من صعوبة الأوضاع التي تعيشها أوروبا، وأثمان تدخلها السلبي بالصراع في أوكرانيا، وجهلها بتفاهمات قمة ألاسكا، ومع ذلك سعت إلى عرقلة الحل، ودفع زيلينسكي لرفض ما يُعرض عليه روسياً، ورفض مقترحات الرئيس ترامب التي قد تُفضي برأيه في نهاية المطاف إلى السلام وإعادة أوكرانيا إلى التوازن الأوروبي، بغض النظر عن رأي زيلينسكي ورغبته بمواصلة الحرب أم لا، لكن أوروبا عارضت طروحات واشنطن، وتمسكت بالضمانات الأمنية، وبإرسال قواتٍ أوروبية لحفظ السلام – إن تحقق-، وبدت وكأنها تشكك بحتمية هزيمة أوكرانيا، واندفعت للرهان على مواقف "تحالف الراغبين"، بما يعكس خياراتها المنفصلة عن الواقع، في ظل إنقسامٍ عالمي وصراع كبير على عنوانه الرئيسي وكنهه وجوهره، والذي يستحيل في ظروفه الحالية أن يضمن التوازنات العالمية بما تشتهيه أوروبا منفردةً، وفوزها بالإنتقالٍ السلس نحو "مستقبلٍ مشرق" يحلم به كل من أضاعوا هيبتها وبحرمانها الحكمة والقوة لفرض أحلامها، في وقتٍ تتحسس فيه مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، أن: "الصين وروسيا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا، يسعون إلى تغيير النظام العالمي"، وتُظهر صحوة الأميرة النائمة بعد قبلة الأمير.
إن قرار الولايات المتحدة الخروج من الأزمة الأوكرانية، وبتحويل دفة مسؤولية الحل النهائي إلى الأوروبيين، يؤكد على الشرخ الكبير في تحالفهما السابق، وخروجاً عن أسسه التي اعتمدت على قيام الولايات المتحدة بدور شرطي العالم، وحماية أمن أوروبا، مقابل تعويضها ودعم خزائنها وفتح الأسواق أمام بضائعها، لكن أوروبا اليوم أصبحت تعاني ولم تعد تمتلك من الموارد ما يؤهلها للإستمرار بدور الشريك الأصغر الذي يفترض به تعويض الشريك الأكبر، وبات عليها قبول عقوبة التخلي الأمريكي عنها أمام إصرارها على محاربة روسيا.
وفي ظل تردي أوضاعها الإقتصادية بسبب العقوبات والرسوم الأمريكية، وتراجع نفوذها حول العالم، يبدو أنه من الصعب على الإتحاد الأوروبي إستعادة إنتعاشه الإقتصادي، حتى لو نجح في الإتفاق مع روسيا حول كيفية الخروج من الأزمة الأوكرانية دون خسائر فادحة، وستبقى المواجهة الجيوسياسية قائمة ومستمرة، مع عزم الولايات المتحدة شنّ حربٍ اقتصادية على الصين، والذي ستحتاج فيه الدعم الروسي والأوروبي لمعاقبة الصين، الأمر الذي سيضاعف تعقيدات موقفها، وسيضعها أمام خيارين، أولهما التوقف عن دعم أوكرانيا، والبحث عن استعادة علاقاتها مع روسيا بعيداً عن أمريكا، والثاني عبر طلاقٍ أوروبي – أمريكي، والإتجاه نحو دعم وتعزيز الخلافات الروسية الأمريكية، ومضاعفة تأثير المعارضة داخل الولايات المتحدة، للمساعدة على هزيمة ترامب والترامبيون في الانتخابات النصفية القادمة، خصوصاً وأنهم يعتقدون بمسؤوليته في تدمير أوروبا وصعوبة مأزقها الحالي، وبأنه من حقها السعي لتحقيق مصالحها.
تأخرت أوروبا وتأذت أنظمتها وشعوبها، نتيجة عدم إنصاتها لأصوات عقلائها، وسارت وراء منافقيها ونخبها الفاسدة، وأصبحت اليوم بحاجة إلى ما يشبه المعجزة للخروج من أزماتها الداخلية على غرار ما يحصل حالياً في فرنسا الجريحة باّثام قادتها وعلى رأسهم إيمانويل ماكرون، وسط الخشية من انتشار العدوى وتمددها على كامل مساحة أوروبا، التي ارتكبت العديد من الأخطاء والخطايا، وبإعتقادها أن أمريكا هي العالم، وعلى الأوروبيين الإلتزام بدعم نظامها الأحادي وبتحالفهم الأبدي معها.
Comments