نيروز الطنبولي
إذا أردنا أن نتحدث عن الاستدامة والوعي البيئي لا نستطيع أن نتغافل عن قامات بشرية ربّما يستصغر دورها في الحياة من هم أقل وعيا بقيمتهم وبمدى فعاليتهم في الحياة،
صحيح أن هناك الكثير من الأمثلة المغمورة ولكن هناك من استطاع أن يكسر كل القيود ويتخطى أبعاد التحديات والانهزام أمام ضغوطات المجتمع وتحدياته النفسية والمادية ليرسم بذلك صورا ًملونة تتراءى جلية بإنجازات غير اعتيادية تبرز تحدي الإنسان الناضج المثقف وتمكنه من إثبات ذاته وفكره المستنير ، هذا ما فعله كامل الزغيدي من تونس الخضراء منظف البلدية كما يسمي مهنته والذي يشرف بأن يقدم صورة أشبه لطائر مغرد لا لعامل بسيط كما يراه البعض.
كامل أخد من اسمه الكثير ، فعندما تتحدث إليه للوهلة الأولى لا ترى فيه سوى شابا مبتسما طلق اللسان بفصحى غناء وبعد أن تسترسل معه تجد فيه الإنسان ذا القلب الطيب الذي يبدو كطفل يحلم بمستقبل نظيف مشرق لكل الأوطان ويعبر كدمية متحركة بعالم سمسم الذي يتعلق به منذ طفولته ويدّعي أنه من علمه الخلق والمثل واحترام الإنسان بكل ما يقدم وإن بدا للبعض بسيطا.
من طفولة في أسرة فقيرة وخمس إخوة لأب يعمل بالبناء ويستهويه الفسيفساء وأم تخيط الثياب وتنحت الكانون ذلك الطفل السادس آخر العنقود الذي لم تدلله الحياة كما دللته أمه وبالرغم من تعلقه بالتعليم اضطر للتسرب منه لأسباب مادية شملت الأسرة ليتوجه للعمل لمساعدة أسرته وحتى بعد أن كبر الإخوة ومات الأب وأصيبت الأم بقي تحت قدميها ليطببها ويرعاها... وحتى بعد وفاتها وجد نفسه غارقا في وحدته لا ينشد سوى المحبة وإماطة كل الأذى عن الطريق متفرغاً لأفكاره الإبداعية التي لا تصل لمخيلة من يحتقرون عامل النظافة ويتهربون من رائحته التي اختلطت بما يرفعه عن الطريق من أذى وبما يزيله من أوساخ الحياة لننعم نحن بالمكان الهانيء النظيف.
كامل أراد أن يكمل ما قد بدأه بعمله البسيط في قالبه العظيم في قيمته ومدلوله لما هو أعظم وأجدر باحترام الجميع ، كامل أراد أن يحول النفايات لمشاريع إعادة تدوير تجميلية لتتحول القمامة التي تظنها أنت عديمة القيمة إلى عمل إبداعي مبهر ، وعبّر عن هذه الأعمال المثيرة للإبهار بأنها أولاده الذين لا يقبل أن يبيعهم للأغراب...وربّما يغيّر من رأيه مستقبلا لننعم نحن بمزيد من الرقي والعطاءات الفنية غير الاعتيادية.
كامل أراد أن يعمق بدواخلنا ما عمقته الحياة والثقافة وحبه لجبران والشعر الذي يهوى والدمى والأعمال الفنية التي تعتمد على مسرحة الاشياء بحد تعبيره ... كامل كمله الله بموهبته لا يتقاضى دعما من أحد أو أية جهة وكثيرا ما تضيق عليه الاحتياجات لا المادية فقط لإقامة معاشه بل لاستكمال الخامات والمواد التي يرتجيها لإتمام إبداعاته الفنية التي لا تتصور كونها صنعت من قمامة.
لفتتني كثيرا لقطة لكامل وسط صحبة زهور من ورق مفرط لزهور متنوعة جافة قال عنها أنها أغرب ما تحصل عليه من النفايات أشار لذلك على موقعه الإلكتروني.
كامل ينظم الشعر وله أكثر من مؤلف لأن أحلامه لا تتوقف وقد أخبرني أنه يحمل المقشة في يد وفي الأخرى ورقة وقلما ويسترسل في كنسه وهو غارق الفكر في نظمه .
ويحب الرقص والموسيقى والمرح وينشر الابتسام في أمتع أوقاته التي يقضيها مع زملائه عمال النظافة في البلدية في أوقات الاستراحة اليومية ليعود لمنزله وقطته التي تنتظره بشغف ليشعل المذياع وينسجم مع فنه.
حبه للقرآن وللقراءة ورثه عن أمه النحاتة ودراسته للتطريز والكمييوتر وأمور أخرى كثيرة جعلت منه قيمة مستدامة لإنسان لا تخلو ذرة من تفكيره من إبداع مطلق سابح في محبة الكون بحره وشجره وكل ما أبدعه الله الخالق...درس الجمال بفطرته وامتهنه بالرغم من تناقض ملابسات وظيفته معه في ظاهر الأمر بينما إذا أمعنا النظر وجدناه يكمل ما بدأ ولكن بطريقة لا يجيدها إلا مبدع مثله.
كامل الزغيدي صورة مشرقة لرجل مثقف وفنان ومكافح أراد أن يبذل في الحياة لغير نظرة ضيقة لعامل النظافة الذي يقدم عمل شريف ومحترم لا يقل قيمة عن المهندس أو الطبيب ويرى أملاً في طفولة تكون أكثر وعيا وتحضراً ولذلك بادر للكثير من الورش الفنية ليقدم للأطفال قيمة ووعي بمستقبل نحو الاستدامة.
كامل الاحترام وكثير من التحايا يا عامل النظافة يا ألطف العمال...تحية لكامل الزغيدي المواطن التونسي المتألق بفنه الراقي.
Comments