خاص بيروت تايمز- بقلم ميشلين أبي سلوم*
أين يمكن أن نسبح في لبنان؟ ما هي الشواطئ الآمنة أو قليلة المخاطر؟ وما هي أماكن السباحة التي قد يهدِّد ارتيادها بمخاطر الإصابة بالسرطان؟ وهل الأسماك وثمار البحر في الشاطئ اللبناني صالحة للأكل؟ وهل زال الأثر البيئي السلبي لكارثة التلوث النفطي التي أوقعها عدوان إسرائيل في العام 2006؟
هذه الأسئلة طرحت نفسها بقوة في الأسبوعين الأخيرين، مع وصول موسم السباحة والسياحة إلى ذروته. وكان لافتاً اختلاف الدراسات والتحليلات، بل تناقضها. ففيما أصدر المركز اللبناني للبحوث العلمية تقريراً يدعو إلى الارتياح والتفاؤل، تواترت تقارير أخرى أكثر حذراً. لكن الأسوأ كان تقرير محطة ال CNN التلفزيونية الأميركية والذي وصف البحر اللبناني بأنه مكبّ للنفايات الصلبة والسائلة.
في خضمّ الحديث عن تلوّث الشاطئ اللبناني وإنعكاساته على موسم الإصطياف، بثت شبكة "CNN" الأميركية تقريراً عن تلوّث الشاطئ اللبناني، تناولت فيه أزمة لبنان البيئية التي يعاني منها منذ سنوات، وأزمة النفايات براً وبحراً. وأظهر التقرير مشاهد مرعبة للنفايات القابعة في قاع البحر من معلبات ومواد بلاستيكية وغيرها، إضافة إلى النفايات التي تطفو على سطح المياه. ووفق التقرير، فإن الرائحة الصادرة عن المياه شبيهة برائحة الحمامات العامّة!
هذا التقرير ينتقده بعض المعنيين في لبنان ويقول: ليس بحر لبنان سيئاً إلى هذا الحد. ومؤسف أن تستغل بعض الأوساط الإعلامية العالمية سلبيات الوضع لإعطاء صورة تشوِّه وضع لبنان السياحي.
وفي هذا الشأن، جاء التقرير الذي أعده المركز الوطني لعلوم البحار بشأن نوعية مياه البحر على الشاطئ اللبناني. وانتهى التقرير إلى الخلاصة الآتية: ليس كل البحر ملوثاً رغم مأساته. ونشر التقرير نتائج فحوصات دورية ومتتالية أخذت ما بين كانون الثاني 2016 وحزيران 2018، وأظهرت أن 16 من أصل 25 نقطة بحرية من العريضة شمالاً حتى الناقورة جنوباً آمنة وصالحة للسباحة والنشاطات المائية وتصنيفها جيد، بينما توجد 4 مناطق مصنفة بدرجة مقبول و5 مناطق سيئة وملوثة جداً ولا يمكن استخدامها للسباحة، بسبب تأثُّرها بالتلوث البكتيري من نوع العقديات والقولونيات البرازية. لكن كل نقطة تمثل جزءاً محدوداً، ولا تعكس الحالة البيئية للمنطقة كلها.
وتُظهر الخريطة التي نشرها التقرير أن المناطق الخمس السيئة والملوثة هي:
- قرب مصب نهر انطلياس.
- الشاطئ الشعبي على الرملة البيضا.
- المنارة الجديدة في بيروت.
- الشاطئ الشعبي في طرابلس.
- سلعاتا إلى جانب معمل الكيماويات.
وتتخطى نسب التلوث البكتيري فيها 500 مستعمرة بكتيريا في كل 100 ملل. أما النقاط المقبولة فهي التي تراوح نسب التلوث فيها بين 200 و500 مستعمرة بكتيريا، وتشمل:
- المينا- جزيرة عبدالوهاب في طرابلس.
- قرب مطار القليعات في عكار.
- المسبح شبه الشعبي في الصرفند.
- الرميلة- دير المخلص.
أما بقية العينات فقد أظهرت نتائجها أن الشاطئ بحالة جيدة. إذ راوحت النسب بين 0 و200 مستعمرة بكتيريا، مثل:
- شاطئ محمية صور الرملي
- قرب مرفأ الصيادين في الناقورة.
وجاء في التقرير: الاضاءة على النقاط النظيفة لا تعني عدم وجود مناطق ميؤوس منها. فالعينات المأخوذة لم تشمل أماكن مثل مصبات المياه الآسنة الموجودة بكثافة على طول الشاطئ وبقرب التجمعات الصناعية ومكبات النفايات، نظراً لأنها ملوثة ولا نحتاج لمعرفة ذلك إلى تحليل. ولم تؤخذ عينات من المسابح الخاصة لعدم صلاحية المجلس الوطني للبحوث العلمية. وهذا ما أكده رئيس المجلس معين حمزة، خلال إطلاق التقرير، الخميس في 19 تموز 2018. وأكد حمزة أن هذه النتائج لا تنفي التدهور البيئي الذي يعاني منه الشاطئ بسبب المياه الآسنة، ومكبات النفايات والنشاط الصناعي ناهيك بغياب التنظيم المدني.
وأظهر التقرير نتائج فحص المعادن الثقيلة مثل: الرصاص، الزئبق والكادميوم الموجودة بتركيزات أدنى من النسب المسموح بها عالمياً في عضل الأسماك وبعض الصدفيات والقريدس، بعدما أخذت عيناتها من أماكن عدة على طول الشاطئ على مدى 3 سنوات. بالتالي، يضيف التقرير، فإن سمك لبنان سليم.
في المقابل، يبدو رئيس مصلحة الابحاث العلمية الزراعية الدكتور ميشال افرام أقل تفاؤلاً. وكان قد أشار في تصريح صحافيّ إلى أنه ليس هناك مكان واحد على الشاطئ خالٍ كلياً من التلوث، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، إنما هناك أماكن أقل تلوثاً من غيرها. فالجميع يعلم أن مجارير الساحل والجبال تصب كلها في البحر، هذا من دون التطرق إلى النفايات.
ويذكر بأن مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية أجرت فحوصاً جرثومية وكيميائية ومعادن ثقيلة على عصارة النفايات، فتبين وجود معادن ثقيلة زئبق، رصاص... وملوثات كيميائية وملوثات جرثومية وصلت إلى 3.1023 جرثومة بالملم المربع أي أنها قنبلة جرثومية. فمياه البحر، مثل باقي المياه ملوثة جرثومياً، كيميائياً وبالمعادن الثقيلة الزئبق، الرصاص....
اعتراض دول الجوار
وتهديد مياه البحر والثروة السمكية فيه يأتي أيضاً من مياه الصرف الصحي التي يتم ضخها في البحر. ووصلت نسبة المياه المبتذلة المرمية في البحر إلى 300 مليون ليتر سنوياً وتأتي من 57 مصباً موزعاً على طول الشاطئ اللبناني الذي يبلغ طوله 225 كيلومتراً، بحسب ما جاء في دراسة أعدتها مجلة البيئة والتنمية في العام 2007.
وقد أبلغ عدد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط الحكومة اللبنانية امتعاضها من تفاقم الوضع البيئي على الشاطئ اللبناني، واعربت عن تخوفها من انتقال هذا التلوث الى شواطئها، لافتة إلى أن التخوف سببه عدم فرز النفايات في المطامر الساحلية، وبالتالي فإن هذه النفايات قد تحوي على نفايات طبية او كيميائية. وأشارت مصادر دبلوماسية إلى أن هذه الدول تحتفظ بحقها في رفع دعاوى قضائية ضد الحكومة اللبنانية بسبب تلوث الشاطئ اللبناني، خصوصاً وان لبنان موقّعٌ على اتفاقيات الامم المتحدة المتعلقة بحماية البحر الأبيض المتوسط. الا انها حتى الآن، لم تقدم أية شكوى والأمر مقتصر على توجيه انذارات عبر القنوات الدبلوماسية.
ويعتبر البروفسور ولسن رزق وهو دكتور في الهندسة المائية والمدنية وميكانيكية التربة أن مشكلة الشاطئ هي واحدة من أكثر المشكلات البيئية إلحاحاً في لبنان. ويرى رزق أن عدو البيئة والحياة والذي يعتبر الأخطر من نوعه اليوم، يتمثّل بالتلوّث الناشئ عن تعقيدات تطوّر التكنولوجيا وحاجات المجتمع المعاصر، وهو ينقض مقولة الغاية تبرّر الوسيلة، فلا مغفرة لذنب التعدي على البيئة، فهي تساوي الحياة.
ولعل أبرز ما يجب أن تنصبّ عليه الجهود في هذا المجال هو الحرص على حماية الوجود السكاني الإنساني والحيواني والنباتي على حد سواء. فالبيئة ليست ملك الإنسان وحده. لكن لبنان اليوم بعيد كل البعد عن سلامة البيئة بكائناتها وعناصرها والتوازن الذي أوجدته الطبيعة في ما بينها.
وأول كوارث لبنان البيئية وفق البروفسور رزق تلوّث الشاطئ، فآلاف الأطنان من النفايات والملوّثات الصناعية تُقذف سنوياً في مياه البحر. ويقول: تعد حكوماتنا بتأمين محطات تكرير لمعالجة هذه الآفة، ولكن ما من شيء ملموس يتحقّق. ويضيف: إن الشاطئ اللبناني هو أكبر ضحايا التلوّث. فإذا أخذنا نموذجاً الساحل اللبناني لوجدنا أنه عرضة لمخالفات المصانع المنتشرة. كما أنه منطقة للصيد البحري العشوائي، يضاف الى ذلك آثار النفط المتسرّب من مستودعات معمل الجية التي قصفت خلال العدوان الإسرائيلي في 2006. والمحاولات التي جرت لتنظيف قاع البحر والشواطئ اللبنانية من التلوّث النفطي، ساهمت الى حد ما في الحد من هول الكارثة، ولكنها لم تحل المشكلة جذرياً.
ورمي مياه الصرف الصحي مباشرة في البحر من دون أية معالجة يفاقم المشكلة وكذلك رمي النفايات المنزلية العضوية والصناعية والزراعية والنفايات الصلبة. وثمة انفلات على هذا المستوى. فالنفايات تُرمى بشكل عشوائي في المياه الإقليمية، وبعضها يصل الى مياه البلدان المجاورة. وقد أدّى تراكم النفايات الى تغطية كاملة لقشرة الأرض على الساحل اللبناني بمختلف أنواع النفايات من البلاستيك والنايلون والتي لا يمكن أن تتآكل أو تتحوّل حتى بعد عشرات السنوات.
ويضاف الى ما سبق ذكره التمدن العشوائي المتمثّل بانتشار المنتجعات السياحية بشكل جنوني على الشاطئ اللبناني، مع ما تمثّله هذه الظاهرة من خطورة ردم البحر وتقليص مساحته البحرية لصالح التمدن الباطوني، ما يلحق أذى بالغاً بالبيئة، وهذا الأذى ينعكس حتماً على الإنسان.
وتلوّث الشاطئ يطاول مصالح الصيادين الذين يعتاشون من البحر، ويسبب دمار البيئة البحرية الساحلية الممتدة على عمق عشرة أمتار من داخل البحر وصولاً الى الشواطئ الرملية والصخرية، بكل ما تحتويه من مخلوقات بحرية، وبيض الأسماك والديدان والسلاحف، والأصداف والطحالب والحشائش البحرية.
وينتهي البروفسور رزق إلى طرح السؤال الآتي: ماذا نأكل؟ وأين نسبح؟ وماذا نصطاد وقد تحوّل البحر بركة ملوّثات وسموم!
مركز علوم البحار يصحّح
وقد أثار تقرير مركز علوم البحار ارتياحاً شديداً في الأوساط السياحية. فبالنسبة إلى أركان هذا القطاع، تتعرّض السياحة في لبنان لحملة ممنهجة من الشائعات السلبية الهادفة الى ضرب القطاع ومؤسساته مع بدء موسم الصيف المفترض ان يكون الاكثر استقطاباً للسياح، والاكثر تحفيزاً للحركة الاقتصادية.
وأدّت الاخبار السلبية والملفقة عن تلوث بحر لبنان وثروته السمكية، والتي اندلعت وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الى ضرب السياحة البحرية وحرمان المنتجعات البحرية من روادها المحليين، وبطبيعة الحال من السياح الاجانب.
وتراجعت الحركة الاقتصادية في القطاع السياحي البحري بنسبة تفوق ال 40 في المئة خلال أهمّ فترة من الموسم السياحي، وهي أولّ 20 يوماً من شهر تموز، أي بعد نهاية العام الدراسي وبعد انقضاء شهر رمضان، وفقا لما أكده نقيب أصحاب المؤسسات البحرية جان بيروتي الذي أوضح ان انطلاق حملة الشائعات مع بدء موسم الصيف السياحي ليس أمراً بريئاً، فالمؤسسات البحرية لم تتعرّض يوماً الى هذا الكمّ من الشائعات المغرضة ولم تصبها يوماً هذه التداعيات السلبية.
وقال بيروتي ان صدور تقرير علمي عن المجلس الوطني للبحوث العلمية والمركز الوطني لعلوم البحار، يغطي 30 شهراً من البحوث والفحوصات المخبرية لعينات من الشاطئ اللبناني، ويؤكد ان الشاطئ اللبناني ليس ملوثاً كما يشاع، يعتبر هو المرجع العلمي الوحيد الصحيح عن وضع الشواطئ في لبنان.
*صحافية لبنانية
Comments