بقلم: محمد زريق
أكتبُ هذه الكلمات باسم الإنسانية مخاطباً رجل الفكر والدعوة إلى المحبة والتسامح والحوار، ومسترجعاً بعضاً من إرثنا اللبناني الوطني، في الذكرى الأربعين على تغيّيب الإمام موسى الصدر أكتبُ عن هذا الرجل وأنا لم أعرفهُ ولم أكن موجوداً في الحقبة الزمنية التي أعطى خلالها الكثير للبنان، ولكن عرفتك أيها الإمام من خلال فكرك وتسامحك، وأحببتك لأنك كنتَ إنساناً ورجلاً وطنياً، لا رجل طوائف أو أحزاب ولم تفقه لغة الغش والفساد. أكتُبُكَ كلمات نابعة من القلب، وهناك في المقلب الشرقي من لبنان وتحديداً في مدينة بعلبك يتم إحياء ذكراك.
أحببتُ أن أخاطب روحك في هذا اليوم وأن لا أكونَ واقفاً بين الجموع مهللاً لكل من يخطب، وما الفائدة من الخطابات والكلمات الرنّانة ووطننا تمَّ تغيّيبه بعد تغيّيب الإمام. نُحيي ذكرى تغيّيبكَ اليوم، ومن بعدك نُحيي ذكرى تغيّيب وطننا ودولتنا كل يوم، لأنكَ أنتَ الذي قلتَ "أمنيتي تحويل النظام الطائفي في لبنان الى نظام ديمقراطي يعتمد على الكفاءات، ولا أقول نظاماً علمانياً، لأن بين الطائفيةِ والعلمنةِ النظامُ المتدين"، فأينَ هو هذا النظام الجميل والصعب المنال، ألا يستحق وطناً كلبنان نظاماً يليقُ به وبتاريخه وبشعبه. إنَّ أمنيتكَ يا سيدي التي كانت الدفاع عن الإنسان المحروم والمُعذّب لم تتحقق، فالمحروم قد ازداد حرماناً ومن كان متوسط الحال أصبحَ فقير الحال، ومن لم يحتمل العيش في هكذا وضع لم يجد سوى الطلاق وترك وطنه والرحيل إلى بقعة أخرى من بقاع العالم حيثُ الهدوء والأمان والاستقرار والعيش الهادىء بعيدا عن قرقعات السياسة ودواوين السياسيّين التي لا تنتهي.
إنَّ الأمل بوطن يشبه طموحاتنا قد رحل مع رحيلك، فكنتَ أنتَ الأمل وكنتَ أنتَ رمزاً للتواضع ونِعمَ الرجل الوطني الذي أصبحَ اليوم رمزاً من رموز هذا الوطن. فمن السهل أن يضع الإنسان نفسه في خانة حزبية أو طائفية أو سياسية أو اجتماعية أو طبقية، ولكن الصعب هو أن يكون رجل الدين علماني الفكر ووطني الهوية ومتواضعاً مع شعبه ومحبّيه ولا يغوص في آتون المزايدات والصفقات بالرغم من أنهُ قادراً على هذا الامر. غيّيبوكَ يا سيدي لأنَّ حلمكَ كانَ بناء وطن وليس بناء حزب ولأنكَ لم تؤمن بمشروع المزرعة، عندما أنظر إلى عينيك الحالمة أرى وطناً قرمزياً كان ليكون وفي لحظةِ القرار رحل.
أنتَ تشبه الرجال العظماء الأشداء التي مرّت على لبنان، أنتَ تشبه كل حلم تمَّ اغتياله أو تفجيره أو ابعاده، ليس لأنها إرادة الله بل لأنَّ هذا الوطن لا يستحق الحياة، كل ما يستحقه هو حفنة من رجال المال والأحزاب، التي تقبض على عنق هذا الوطن وتستنزفه يوماً بعد يوم، ولا يهمها سوى المال والمصالح الخاصة.
بعد فترة طويلة على تغيّيبك، يكتبُ إليكَ شاب عَرِفَ جيداً فكر ونهج وطموح السيد موسى الصدر، ليقولَ لكَ أنَّ هذا الوطن فاقد الأمل، فما أجمل الوطن الذي حَلِمتَ به وكنتَ تسكنه، ما أجمل لبنان حتى في عز أيام الحرب، لأنكَ أظهرتَ الصورة الحقيقة عن التعايش والتسامح والمحبة بالرغم من الحروب التي دَعَمَتها دول الغير لتكون على أرضينا. إنَّ لبنان اليوم هو وطن يعيش الأمن والسلام وها هي كل الجيوش رحلت عن أراضيه ليكون الوطن المستقل، ولكن ما أجمل لو بقيت كل جيوش العالم ورحلت جيوش ومافيات الفساد والطوائف والأحزاب.
إنَّ السيد موسى الصدر تركَ للبنان إرث عظيم وفكر غني، وها هو اليوم يناديكم يا أبناء هذا الوطن ويعيد عليكم النداء بالإبتعاد عن الطائفية لأنها أساس علّتنا وأزماتنا في لبنان، وأن نعيش التواضع ونقف إلى جانب المحرومين، فالأجدى بنا أن ننتزع من نفونسنا عقدة الطائفية ونقتلع من قلوبنا رجال السياسة، وعلى كل مواطن واجب محاسبة السياسيين وعلى كل لبناني واجب الوقوف إلى جاب أخيه اللبناني مهما تكن طائفته أو توجهاته.
آن لهذا الوطن أن يُبنى، وآن أن نستيقظ من ثباتنا العميق ونقف وقفة رجل واحد، فالعصى الواحدة ستُكسر بسرعة أما مجموعة من العصي لن تُكسر، هكذا أرادونا مُقسّمين بحجج الطوائف والأحزاب والإنتماءات، ليطيبَ لهم سرقة هذا الوطن دون حسيب أو رقيب، ويطيبَ لهم تعطيل مؤسسات الوطن في أي وقت كان، واليوم وطننا مُعطل، فكم من الروايات الجميلة كانت ستؤلّف وهذه الحكومة لم تؤلّف بعد.
إنَّ وطنكَ يا سيدي مهدد اليوم أكثر من أي وقت مضى، فالأزمات تتكاثر، من نفايات إلى تلوث مياه الأنهار بالمواد المسرطنة إلى الكهرباء وغلاء المعيشة والمدارس إلى ديون خارجية، كل هذا ومشاورات تأليف حكومة لم تنتهي بسبب الجشع والطمع. إنَّ الأمل يا سيدي مفقود، ففي هذا الوطن الأمل يُعشّش في قلوب المحرومين والضعفاء والمساكين ولكن هذا النوع من الأمل لا يُفضي إلى نتيجة بس يظل في دنيا الأحلام ويُتعب القلوب .. والسلام.
* كاتب سياسي وناقد إجتماعي وناشط في المجتمع المدني اللبناني ومترجم، لديه العديد من الدراسات المنشورة، وهو مهتم في السياسات الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط.
Comments