د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب *
بعد المحادثات الأميركية الروسية في العام 2005 ركب الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش والرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيارة فولغا عتيقة صنعت عام 1956، في هذا المشهد الرئيس الأمريكي هو من قاد السيارة حيث توجه الرئيسان إلى مقر إقامة الرئيس الروسي لتناول العشاء في ضواحي موسكو.
فيما كانت العلاقة بين بوتين وأوباما معقدة تخللتها فترات من التعاون والتوتر خاصة بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 1914، بل عقيدة أوباما تجاه روسيا مهدت الطريق لحرب بوتين لأوكرانيا، ولم تستثمر أوروبا خصوصا عند اتصال بوتين برئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون رغبته في التوصل إلى حل دبلوماسي لأزمة أوكرانيا، وأكد أن استقرار هذا البلد من مصلحة الجميع، ومن جانبه دعا الرئيس الصيني جي جين بينغ نظيره الأميركي أوباما والمستشارة الألمانية ميركل أنه يتعين على كل الأطراف العمل بهدوء في أوكرانيا لتجنب التصعيد ودعا إلى حل سياسي.
قمة الأسكا الفريدة استقبل بوتين في قاعدة عسكرية أميركية على السجادة الحمراء، وسط تصفيق واستعراض ترحيبي مثير للطيران الحربي، يبدأ بوتين في الحديث في مؤتمر صحفي في مخالفة بروتوكولية، ثم يجلس القائدان نحو 3 ساعات لمناقشة شؤون المنطقة والعالم، في أول لقاء يذهب بوتين منذ سنوات مع نظيره الأميركي دونالد ترمب وهو يدرك تماما أن أولويات الأخير لا تتوافق تماما مع أولويات أوروبا وحاجات أوكرانيا.
يطرح بوتين رؤيته أمام ترمب وفريقه ليس فقط فيما يتعلق بالتسوية المحتملة في أوكرانيا، بل حول آليات إعادة الثقة وفتح أبواب التعاون الواسع مع واشنطن، في إطار صفقات كبرى تصب في صالح الولايات المتحدة التي يسعى لها ترمب فيما يتعلق في ملفات كثيرة في ملف الطاقة الذي استفادت منه الصين في شراء النفط الروسي الرخيص وعززت مقدرة اقتصادها، وأيضا حصول الولايات المتحدة على المعادن النادرة إلى جانب مسؤوليات مشتركة عن الأمن والسلم الدوليين.
سبق القمة بأسابيع تصعيد قوي بين الجانبين عندما قال نائب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري مدفيديف الذي تسبب جداله مع ترمب أخيرا بإرسال غواصتين نوويتين إلى مقربة من شواطئ روسيا لفرض أمر واقع ميداني جديد لا يمكن تجاهله عند الحديث عن أي انسحابات أو تنازلات إقليمية محتملة، مما ساد في موسكو بأنه خرج منتصرا من هذا اللقاء، خصوصا فيما تم الكشف عنه أن بوتين يعلن التوصل إلى اتفاق غامض يترك لترمب شرح التفاصيل التي توضح تراجع ترمب عن فكرته التقليدية بضرورة التوصل إلى اتفاق لوقف النار في أوكرانيا، وطرح بوتين على القادة الغربيين فكرة السلام النهائي التي طرحها بوتين ما يعني أن بوتين يطالب بضرورة إنها الجذور الأصلية للنزاع أي أن ترمب تبنى طرح بوتين حول آليات التسوية المحتملة وإذا لم يوافق الأوربيون على ذلك فإن بوتين سيواصل القتال، وهي رؤية معاكسة للضمانات التي قدمها ترمب للأوربيين عبر تقنية الفيديو كونفرس قبل القمة تتعلق بوقف القتال والتحضير للقاء ثلاثي يجمعه مع بوتين وزلينسكي والضمانات الأمنية لاحقا لأوكرانيا، وتعارض موسكو نشر قوات أوروبية في أوكرانيا أو تمنح الأوربيين صلاحيات على خطوط التماس، أو إعادة تسليح الجيش الأوكراني.
انتصار بوتين يتضح من خلال التوصل مع ترمب حول صفقات كبرى تم التوافق على ملامحها أشارت إلى استثمارات مشتركة في القطب الشمالي بدلا من الاستثمارات الروسية الصينية أو على الأقل منافستها، واتفاق يتحدث عن شراكة في بناء السفن، وقطاع الأعمال الروسي مستعد للانفتاح على سوق الاستثمارات الأميركية الكبرى، وهناك مشاريع استراتيجية كبرى في شرق روسيا حتى لا تترك للصين بمفردها، وأهم تلك الاتفاقيات الاستثمارات المشتركة في قطاعات المعادن النادرة لتقليص سيطرة الصين على 90% من هذه المعادن، وبدأت تتحكم في منع تصدير أهم 7 معادن نادرة ذات أهمية تستخدم في الصناعات العسكرية والتقنيات المتقدمة، بل والاستثمار في المعادن النادرة ليس فقط في روسيا بل حتى في الأقاليم الأوكرانية التي تقع تحت سيطرة روسيا التي تمتلك عدد من المعادن النادرة المهمة وبسبب الحرب توقف انتاج هذه المعادن.
وجدت أوروبا نفسها في موقف الخاسر في القضية الأوكرانية وفق الرؤية الروسية بسبب أنها لم تعد قادرة على طرح مبادرة مستقلة تتجاهل الجهود الأميركية وفق تعليق نشرته وكالة نوفوستي فقط تتحرك أوروبا على هامش هذه الجهود وتقوم بردات فعل عليها، كانت النتيجة الأبرز لقمة الأسكا هي أن موسكو وواشنطن متفقتان على تحميل المسؤولية الآن على أوروبا وأوكرانيا عن مفاوضات التسوية المقبلة، مع الاحتفاظ بفكرتين أساسيتين لا تنازلات إقليمية، ولا تراجع عن مبدأ إنهاء الجذور الأصلية للصراع، وأي ضمانات ممنوحة لأوكرانيا مستقبلا يجب أن تناقش وتراعى مصالح روسيا وكل الأطراف الأخرى بما في ذلك أوكرانيا.
* أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى بمكة
Dr_mahboob1@hotmail.com
Comments