#اسمع_وافهم_الوطني_أفعال_لا_أقوال
*المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود
بقلم: فادي زواد السمردلي
لم تكن لعبة الكرة في طفولتنا مجرد تسلية بريئة، بل كانت أول درس عملي في الاستبداد فلقد علّمتنا ساحات التراب وحجرا المرمى أن النفوذ لا يحتاج إلى مؤسسات ولا قوانين يكفي أن تملك كرةً لتصبح الآمر الناهي، والقاضي والجلاد، في وقت واحد.
إنّ "صاحب الطّابة" لم يكن لاعبًا بيننا، بل كان سلطة مطلقة، يختار من يشاء ويقصي من يشاء وفق أهوائه لا وفق معايير العدل أو المهارة. كان يمارس سلطته ببرود، يوزّع الأدوار كما يحلو له، فإذا سجّلت هدفًا لم يعجبه، أبطل النتيجة بجملة واحدة: "أُعيدوها". وإذا أعطي الفريق الآخر ركلة جزاء، نصب نفسه الحارس، فإذا فشل ادّعى أنّه "لم يكن مستعدًا" فكانت القاعدة واضحة إمّا أن تلعب وفق شروطه، أو يُنهي المباراة ويعود إلى منزله بكرةٍ هي ملكه وحده.
لقد صمتنا يومها، لا اقتناعًا بعدالته، بل خوفًا من فقدان ما يملك فكانت الكرة سلاحه وسلطانه، ووسيلة إذعاننا الوحيدة. هكذا نشأنا على أن من يمتلك "أداة المتعة" أو "مصدر السلطة" يستطيع أن يحكم الآخرين بلا رادع.
والمفارقة أنّ هذه العقلية لم تُدفن في طفولتنا، بل نمت معنا وكبرت في مؤسساتنا فما أكثر "أصحاب الطّابة" في حياتنا الراهنة مسؤول يتصرّف في منصبه وكأنه ملكية شخصية، مدير يستعمل موقعه لإقصاء الكفاءات وتثبيت الموالين، زعيم يحتكر القرار بكامل المنظومة، فيوزّع الامتيازات على خاصته ويقصي المختلفين بحجّة أنّهم "يخرّبون اللعبة".
لقد تغيّر شكل الطّابة، لكن جوهرها لم يتغيّر فلم تعد كرة جلدية، بل صارت منصبًا أو تمويلًا أو نفوذًا ومع ذلك، ما زال صاحبها هو الذي يقرّر من يلعب، ومن يُطرَد، ومن تُتاح له الفرص، ومن يُحرم منها إنّها نفس الطفولية، ولكن بآثار كارثية على مصائر البشر وحياة الشعوب.
إنّ خطورة هذه العقلية تكمن في أنّها تدمّر إمكانات المجتمع والمنظومة فهي تقضي على الكفاءة لصالح الولاء، وتُجهض الفرص العادلة لصالح المحسوبية، وتحوّل المؤسسات إلى ساحات عبث، حيث يظل صاحب الطّابة ممسكًا بخيوط اللعبة، ملوّحًا بتهديده القديم: "إن لم تلعبوا بشروطي، أوقف اللعبة على الجميع."
النتيجة؟ منظومات كاملة تتحوّل إلى رهائن بيد فرد أو قلة، تتوقّف عجلة التنمية، وتتبدّد الطاقات، ويُهمّش الأكفاء، وتُكافأ الطاعة العمياء إنها الطفولة حين تُعمّم على الكبار، والاستبداد حين يُغلف بثوب رسمي.
وعليه، فإنّ الدرس البسيط من زمن الحارة ما يزال صالحًا لا عدالة في وجود صاحب طّابة واحد يحتكر القرار وحدها المشاركة، وتعدد الطّابات، وكسر الاحتكار، هي ما يصنع لعبة عادلة. فإمّا أن نستسلم لأصحاب الطّابة إلى الأبد، أو نأتي بطاباتنا جميعًا ونفرض ملعبًا جديدًا، حيث لا يملك أحد حق إنهاء المباراة متى شاء.
ولمن يظن أنّه مقصود بما ورد في هذا المقال اعلم أنّ النص يصوّر ظاهرة عامة وليست شخصًا بعينه، وأي تشابه مع وقائع أو أسماء هو صدفة بحتة ومن يراه ينطبق عليه، فليراجع نفسه، فقد يكون بالفعل جزءًا من "أصحاب الطّابة" الذين نعالجهم في هذه السطور.
Comments