السفير د. هشام حمدان
في مثل هذا اليوم من عام ١٩٨٢، انتُخب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية. قيل حينها إنه جاء على ظهر الدبابة الإسرائيلية. وعندما أقسم بشير اليمين، كرر شعاره المعروف: السيادة والاستقلال والحرية للبنان في أرضه الـ١٠٤٥٢ كلم مربع.
رفض بشير ما طلبه بيغن حينها. شكّل ردّه أروع ردّ على أعدائه. فهذا الرجل لم تحمله الدبابة الإسرائيلية، بل حمله الانعتاق الذي جاءت به تلك الدبابة من الإيديولوجيات القومية الجوفاء، ومن الخوف الذي فرضته سطوة حافظ الأسد وجزمة جنوده على أمراء الحرب الآخرين.
بشير قال "لا" لبيغن، مؤكدًا أن تعاونه مع إسرائيل لم يكن خيانة، بل وسيلة لتحرير وطنه من رجس الإيديولوجيات التي عصفت بعقول اللبنانيين في زمن الحرب الباردة.
خاف كثيرون من انتخابه رئيسًا في حينه، وأنا منهم. لكن بعد خطاب القسم، فرح الكثيرون، وأنا منهم. شعرت، وأنا ابن الجبل وأحد المتأثرين بفكر كمال جنبلاط، أن بشير الذي نخافه أصبح الرئيس الذي نحلم به.
كمال جنبلاط قال "لا" للرئيس الأسد فقُتل. بشير قال "لا" للإسرائيلي فقُتل. هذه الرموز تبقى حيّة مشعّة في التاريخ، رغم أخطائها في ممارسة أفكارها.
أما الأمراء الذين لا يزالون أحياءً حتى الآن ويحكمون سعيدًا، فهم أحياء لأنهم قالوا "نعم" لهذا وذاك. قد تكون أعمارهم أطول، لكنهم حتمًا دخلوا مزبلة التاريخ كقتلة، أيديهم ملوثة بدماء الألوف من أهلهم من اللبنانيين.
معيار النبل الوطني هو ما قاله كمال جنبلاط: "ما أجمل العبور إلى الموت من أجل أن يحيا الآخرون". أخال أمراء الحرب الذين ما زالوا يتمتعون بالحياة يقولون: "ما أجمل العبور إلى الزعامة والمال ولو على جثث آلاف الآخرين".
استذكار بشير هذا اليوم ليس محطة حزبية أو مذهبية أو مناطقية، بل هي محطة وطنية. هي ليست مناسبة للتفخيم والتعظيم والتعبير عن عواطف خاصة، بل هي مناسبة للقراءة في الوطنية. وهل يمكن القراءة في الوطنية دون نقد الواقع القائم؟
فهل ننسى ما حصل بعد غياب بشير؟ لمن يجهل الأمور، نذكر أن شقيقه أمين، الذي جاء رئيسًا على جثة بشير، عاش وحكم البلاد. كما أن من خلف بشير في قيادة القوات عادوا إلى دوره الميليشيوي تحت العنوان السيادي الذي حمله.
لكن لماذا استمرّ أمين، وهو أيضًا ابن الكتائب ذاتها؟ وماذا فعل خلفاء بشير؟ يمكن القول وبكل بساطة، إن أمين استمرّ حاكمًا سعيدًا وحيا لأنه قال لبيغن أولًا "نعم" للسلام، ثم تراجع ومشى مع المشروع الأميركي الذي أنقذه من التزامه مع بيغن، إذ لم يُفرض السلام مع إسرائيل، بل جُعلت التسوية معها أمنية ومقدمة إلى مشروع أوسطي يفتح البوابة نحو سلام في الشرق الأوسط. فكان اتفاق ١٧ أيار الشهير.
لكن أمين سرعان ما تراجع ولم يوقّع اتفاق ١٧ أيار الذي أقرّه المجلس النيابي، وذلك إرضاءً للأسد. لم يقتله الإسرائيليون ولا الأميركيون، فقتل المعارض شيمة عربية فقط.
استمرّ خلفاء بشير يضعون أصابعهم على الزناد لمتابعة الحرب. كما أن حلفاء الأسد، من ما يسمى حركة وطنية، والذين ظلوا صامتين خلال مرحلة المفاوضات بشأن الاتفاق، استمرّت أيديهم على الزناد.
قال الأسد "لا" لاتفاق ١٧ أيار، فاشتعلت حرب الجبل ثم حرب بيروت الغربية. ذهبت الدبابة الإسرائيلية وعادت الدبابة السورية. ظلّ لبنان تحت الاحتلال وما زال.
رحم الله بشير. غاب جسدًا، لكن لبنان الحر سيذكره دومًا رمزًا من رموز السيادة والاستقلال والحرية.
Comments