تحقيق من إعداد الإعلامي جورج ديب
في مثل هذا اليوم من عام 1982، دخل بشير الجميّل قصر بعبدا رئيسًا منتخبًا للجمهورية اللبنانية، حاملاً حلمًا بدا للكثيرين ضربًا من الخيال: إنهاء الحروب التي مزّقت الوطن، وتأسيس دولة عادلة وقوية تحت راية جيش واحد ووطن واحد. خلال واحد وعشرين يومًا فقط، استطاع قلب مفهوم “الدولة-المزرعة” الذي كان يسيطر على البلاد، وفتح أمام اللبنانيين نافذة أمل بوطن يحكمه القانون لا الزعماء، ويحتضن جميع أبنائه دون تمييز أو محسوبيات.
وُلد بشير بيار الجميّل في 10 تشرين الثاني 1947 في حي الأشرفية البيروتي، ونشأ في بيت سياسي حمل هموم لبنان منذ نشأة الكيان. درس القانون في جامعة القديس يوسف، ثم تابع دراساته العليا في القانون الدولي في الولايات المتحدة. منذ شبابه، انضم إلى حزب الكتائب الذي أسسه والده بيار الجميّل، وسرعان ما برز اسمه في صفوفه. خلال سنوات الحرب، تمكن من توحيد الميليشيات المسيحية تحت لواء “القوات اللبنانية” عام 1980، رافعًا شعار “توحيد البندقية المسيحية”، لكنه ظل يردد أن الهدف الأسمى هو إنهاء الحرب وبناء مؤسسات الدولة.
انتخابه في 23 آب 1982 لم يكن مجرد محطة سياسية عابرة، بل كان حدثًا مفصليًا في تاريخ لبنان. فالشاب الثلاثيني الذي جمع حوله تأييدًا داخليًا ودعمًا خارجيًا، حمل رؤية واضحة: جيش موحد، مؤسسات قوية، وسيادة لا يُنازعها أحد. لم يتردد في التصريح عقب انتخابه قائلاً: “كل الميليشيات ستذوب، ستُعالج، سيكون هناك جيش وطيد وسلطة مركزية قوية”. وكان يؤمن أن الدولة لا تُبنى بالمساومات، بل بالحسم، قائلاً: “لا أحد يساوم على لبنان، ولا أحد يفاوض على سيادته، ولا أحد يبيع أرضه”.
لكن حلم بشير لم يدم طويلاً. ففي 14 أيلول 1982، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع على انتخابه، انفجرت قنبلة ضخمة داخل بيت الكتائب في منطقة الأشرفية، لتطوي صفحة رئيس لم يتسنَّ له أن يبدأ ولايته. ورغم الاغتيال، ظل مشروعه حاضرًا في وجدان اللبنانيين الذين رأوا فيه رمزًا للنضال من أجل بناء الدولة. خطابات بشير لا تزال حتى اليوم تحمل أصداء حلمه الكبير، إذ قال ذات مرة: “نحن ثابتون في لبنان والشرق، بينما الآخرون يأتون ويذهبون. صحيح أننا لسنا ثابتين جغرافيًا، لكن وجودنا بذاته ثابت إلى الأبد. نحن قدّيسو هذا الشرق وشياطينه. نحن صليبه ورمحه، نوره وناره. نستطيع أن نحرقه إذا أحرقوا أصابعنا، وأن نوقده إذا تركونا بسلام”.
وفي خطاب آخر، عبّر عن رفضه القاطع لأي وصاية أجنبية: “لن نخضع لسوريا أو فلسطين، دولتنا للبنانيين وحدهم. وزارة خارجيتنا لنا، مؤسساتنا لنا، أرضنا لنا. لبنان صغير على أن يُقسّم جزءًا للسوريين وجزءًا للفلسطينيين وبالكاد نصيبًا للبنانيين. ومن يريد تأسيس دولة للفلسطينيين فليأخذ من حصته الخاصة لا من أرض لبنان”. وكان يؤمن أن التحرير لا يُستورد، بل يُصنع محليًا، قائلًا: “لا ننتظر أي مساعدة، ولا نريد لأحد أن يموت من أجلنا. التحرير إما ثمرة عملنا وتضحياتنا وشهدائنا… أو أننا شعب لا يستحقّ العيش والحرية”.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاث وأربعين عامًا على انتخابه، ما زال بشير الجميّل حاضرًا في وجدان شعبه. شهادات معاصريه تلخص أثره البالغ: “لقد حاول بكل ما أوتي من قوة أن يحمي أمّنا… لقد قام بعملٍ رائع. حتى اليوم، أسأل نفسي: ماذا لو لم يُقتل؟ لقد لم يكن ملاكًا، لكنّه أحبّ وطنه بعمق”، يقول أحدهم. ويضيف آخر: “لم يفعل سوى ما كان ضروريًا لحماية المسيحيين، حين لم يعبأ به أحد في العالم. رغم تحالفاته المثيرة للجدل، كان يؤمن بأن لا ميليشيات أجنبية تعمل من لبنان”.
ذكرى انتخاب بشير الجميّل ليست مجرد لحظة لاستعادة الماضي، بل هي دعوة متجددة للأجيال الجديدة لتحويل الحلم الذي حمله إلى واقع. فمشروع الدولة العادلة والجيش الواحد والوطن الواحد لم يُغتل معه، بل بقي حيًا في ضمير اللبنانيين الذين ما زالوا يفتشون عن وطن يليق بتضحياتهم. إن استذكار تلك اللحظة التاريخية اليوم ليس حنينًا إلى زمن مضى، بل تأكيد على أن الأمل بالدولة الحقيقية لم يمت، وأن الحلم الذي رسمه بشير ما زال بانتظار من يحققه.
في ذكرى انتخابه، لا نُحيي فقط اسم بشير الجميّل، بل نستحضر وعدًا لم يُكتب له أن يُستكمل، لكنه لم يُمحَ من ذاكرة الوطن. بشير لم يكن مجرد رئيس، بل كان صوتًا صارخًا في برية الانقسام، وحلمًا جريئًا في زمن الخوف. أعتالوه قبل أن يضع حجر الأساس، لكنهم لم يستطيعوا اغتيال الفكرة. بقيت كلماته تنبض في ضمير كل من يؤمن أن لبنان يستحق أكثر من التسويات، أكثر من الطوائف، أكثر من المزرعة. بقيت روحه تسكن في كل من يرفض الاستسلام، ويؤمن أن الدولة ليست وهمًا، بل حقًا يُنتزع. ففي زمن تتكاثر فيه الأسئلة، يبقى بشير الجميّل هو الجواب الذي لم يُكتمل، لكنه لا يزال يُلهم.
Comments