bah السوريون ومثلث كاربمان: تحليل للأدوار المتبادلة بعد سقوط النظام - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

السوريون ومثلث كاربمان: تحليل للأدوار المتبادلة بعد سقوط النظام

09/02/2025 - 16:32 PM

Prestige Jewelry

 

 

رامز الحمصي

 

مثلث كاربمان الدرامي، الذي ابتكره الطبيب النفسي ستيفن كاربمان في عام 1968، هو نموذج نفسي واجتماعي يصف أنماط التفاعل السلبية والمدمرة التي تحدث غالبًا في العلاقات الشخصية والجماعية. يتكون هذا المثلث من ثلاثة أدوار رئيسية، يتناوب الأشخاص على لعبها بشكل لا واعٍ، مما يؤدي إلى استمرار الصراع بدلاً من حله. هذه الأدوار هي:

1. الضحية (Victim): الشخص الذي يشعر بالعجز، واليأس، وعدم القدرة على حل مشاكله. غالبًا ما يجذب المنقذين ويستفز الجناة. يرى نفسه بريئًا ومظلومًا، ويلقي باللوم على الآخرين أو الظروف.

2. الجاني/المضطهد (Persecutor): الشخص الذي يلوم، وينتقد، ويتحكم، ويضطهد الضحية. غالبًا ما يكون قاسيًا، ومتسلطًا، ويشعر بالتفوق. يرى نفسه محقًا ويسعى لفرض سيطرته.

3. المنقذ (Rescuer): الشخص الذي يحاول مساعدة الضحية، ولكن غالبًا ما يفعل ذلك بطريقة تمنع الضحية من تحمل المسؤولية عن حل مشاكله. قد يكون لديه دوافع خفية مثل الشعور بالأهمية أو تجنب مشاكله الخاصة. يرى نفسه بطلاً، ولكنه قد يساهم في إدامة دور الضحية.

تكمن خطورة هذا المثلث في أن الأدوار ليست ثابتة؛ فالأشخاص يتنقلون بينها باستمرار. الضحية قد تتحول إلى جاني، والجاني قد يصبح ضحية، والمنقذ قد يجد نفسه في دور الضحية أو الجاني. هذا التنقل يخلق حلقة مفرغة من الصراع والدراما، حيث لا يتم حل المشكلات الحقيقية، بل يتم إدامة نمط التفاعل السلبي.

 

Article content

في سياق الصراعات الكبرى، مثل الأزمة السورية، يمكن تطبيق هذا النموذج لفهم الديناميكيات المعقدة بين الفئات المختلفة في المجتمع. فكل طرف يرى نفسه ضحية، والآخر جانيًا، بينما يحاول البعض لعب دور المنقذ، مما يؤدي إلى تعقيد المشهد بدلاً من تبسيطه. ستتناول هذه الدراسة كيف وقع السوريون، سواء في دائرتهم السياسية أو المجتمع نفسه، ضمن فخ مثلث كاربمان الدرامي خصوصا بعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، مع ربط هذه الأحداث بالتطورات التي تلت مارس 2011، وتفصيل كيف بات كل قسم من المجتمع يرى نفسه أنه الضحية والجاني والمنقذ.

سوريا قبل ديسمبر 2024: أدوار متقلبة في صراع طويل (مارس 2011 - ديسمبر 2024)

قبل سقوط النظام في ديسمبر 2024، شهدت سوريا صراعًا معقدًا استمر لأكثر من عقد من الزمان، تداخلت فيه الأدوار وتغيرت المواقع بين الضحية والجاني والمنقذ بشكل مستمر. يمكن تحليل هذه الفترة من خلال عدسة مثلث كاربمان الدرامي على النحو التالي:

1. بداية الانتفاضة (مارس 2011 - 2012):

• الضحية: في بداية الانتفاضة، رأى المتظاهرون السلميون أنفسهم بوضوح كضحايا لنظام استبدادي يمارس القمع والاعتقالات التعسفية. كانوا يطالبون بالحرية والكرامة، ويشعرون بالعجز أمام آلة القمع الحكومية. كذلك، بدأت تظهر فئات من المدنيين كضحايا للعنف المتصاعد من قبل قوات النظام.

• الجاني: كان النظام السوري، بقيادة بشار الأسد، هو الجاني الواضح في نظر المتظاهرين والمجتمع الدولي. فممارسات القمع، وإطلاق النار على المتظاهرين، والاعتقالات الواسعة، كلها رسخت صورة النظام ككيان مضطهد لا يتردد في استخدام العنف ضد شعبه.

• المنقذ: في هذه المرحلة المبكرة، ظهرت بعض الشخصيات والكيانات كمنقذين. المعارضة السياسية في الخارج حاولت لعب هذا الدور من خلال الدعوة إلى الإصلاحات والدعم الدولي. بعض الدول الإقليمية والدولية قدمت دعمًا للمتظاهرين، متخذةً دور المنقذ الذي يسعى لحماية الشعب السوري من القمع.

2. تصاعد الصراع وتدويله (2012 - 2015):

مع تحول الانتفاضة إلى صراع مسلح وحرب، أصبحت الأدوار أكثر تعقيدًا وتداخلًا:

• توسعت دائرة الضحايا لتشمل جميع أطياف المجتمع. المدنيون العالقون بين نيران الأطراف المتحاربة، والنازحون واللاجئون الذين فقدوا منازلهم وسبل عيشهم، أصبحوا الضحايا الأبرز. كل طرف في الصراع كان يرى أنصاره كضحايا لممارسات الطرف الآخر.

• لم يعد الجاني مقتصرًا على النظام فقط. فمع ظهور وتصاعد نفوذ الجماعات المسلحة وخصوصا المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وغيرها من الجماعات الإسلامية والأيديولوجية والقومية، أصبحت هذه الجماعات تُنظر إليها كجناة يمارسون العنف والتطرف ضد المدنيين وغير المقاتلين. كما بدأت بعض فصائل المسلحة تُتهم بممارسات تنتهك حقوق الإنسان، مما جعلها تُرى كجناة من قبل بعض الفئات. النظام بدوره استمر في دور الجاني من خلال استخدام الأسلحة الكيميائية والقصف العشوائي.

• تعددت الجهات التي حاولت لعب دور المنقذ. الدول الإقليمية والدولية تدخلت بشكل مباشر أو غير مباشر، كلٌّ يدعي أنه يسعى لإنقاذ الشعب السوري أو حماية مصالحه. روسيا وإيران دعمتا النظام كمنقذ له من السقوط، بينما دعمت دول أخرى المعارضة كمنقذ للشعب من النظام. المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية لعبت دورًا حيويًا كمنقذين للمتضررين من الصراع، مقدمة المساعدات الإنسانية والإغاثية، حتى التشيكلات السياسية السورية التي انبثقت وانقسمت خلال العصر الأول للثورة كلها لعبت دور المنقذ.

3. تراجع المعارضة وتدهور الأوضاع (2016 - 2024):

في هذه المرحلة، ومع استعادة النظام لمناطق واسعة بدعم حلفائه، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، استمرت الأدوار في التداخل:

• استمر الشعب السوري ككل في دور الضحية الأكبر، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتدمير البنى التحتية. اللاجئون والنازحون استمروا في معاناتهم، ورأوا أنفسهم ضحايا لصراع لا نهاية له، حتى القاطنون ضمن سلطة النظام السوري كانوا يرون أنهم ضحية لما حدث ويحدث.

• استمر النظام في دور الجاني من خلال سياساته القمعية وتجاهله للأزمة الإنسانية. الفصائل المسلحة، سواء الموالية أو المعارضة، التي مارست انتهاكات، استمرت في دور الجاني. القوى الدولية التي لم تتوصل إلى حل سياسي فعال، أو التي ساهمت في إطالة أمد الصراع، بدأت يُنظر إليها كجناة بشكل غير مباشر.

• استمرت بعض الدول في تقديم الدعم الإنساني، لكن دور المنقذ السياسي أصبح أكثر غموضًا. بعض الفصائل المسلحة في سوريا دون استثناء حاولت تصوير نفسها كمنقذ للمناطق التي تسيطر عليها، لكنها غالبًا ما كانت تفشل في توفير الاستقرار والخدمات الأساسية، مما كان يدفع السكان إلى رؤيتها كجناة أو على الأقل كغير قادرين على الإنقاذ الحقيقي.

باختصار، قبل ديسمبر 2024، كان المشهد السوري عبارة عن شبكة معقدة من الأدوار المتغيرة في مثلث كاربمان، حيث لم يتمكن أي طرف من الخروج من هذه الدائرة الدرامية، مما أدى إلى إدامة الصراع وتفاقم معاناة الشعب السوري. هذا التحليل يمهد لفهم أعمق لكيفية استمرار هذه الديناميكيات بعد سقوط النظام، وكيف أن سقوط النظام لم ينهِ بالضرورة هذه الأدوار، بل ربما أعاد تشكيلها في سياق جديد.

سوريا بعد ديسمبر 2024: إعادة تشكيل الأدوار في مثلث كاربمان

بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، كان هناك أمل كبير في أن تخرج سوريا من دائرة الصراع وتتجاوز الأدوار الدرامية التي حكمت علاقاتها الداخلية والخارجية. ومع ذلك، فإن الواقع أظهر أن مثلث كاربمان الدرامي لم يختفِ، بل أعاد تشكيل نفسه بأدوار جديدة، حيث بات كل قسم من المجتمع يرى نفسه أنه الضحية والجاني والمنقذ في آن واحد، مما يعكس تعقيد المشهد وغياب برنامج سياسي موحد.

1. الدائرة السياسية: الفصائل والإدارة الجديدة

• الإدارة الجديدة رأت نفسها كضحية لإرث النظام السابق من الفساد والدمار والبنى التحتية المنهارة. كما أنها شعرت بأنها ضحية للضغوط الدولية والإقليمية، وتحديات توحيد الفصائل وجمع السلاح، والعقوبات الاقتصادية التي لا تزال تؤثر على البلاد. وأيضًا ضحية لعدم وجود دعم دولي كافٍ لإعادة الإعمار والاستقرار.

• بعض الفصائل سواء التي شاركت في إسقاط النظام أو التي تسيطر على بعض المناطق السورية الأخرى رأت نفسها ضحية لسنوات القتال الطويلة والتضحيات الجسيمة التي قدمتها، ولعدم حصولها على الاعتراف الكافي أو الدعم اللازم في المرحلة الجديدة. وشعر هؤلاء بأنهم ضحية لعدم قدرتهم على فرض رؤيتهم بشكل كامل على المشهد السياسي الجديد.

• في ذات الوقت اتهمت الإدارة الجديدة بأنها الجاني في نظر بعض الفئات التي ترى أنها لم تكن شاملة بما يكفي، أو أنها لم تتمكن من تحقيق الاستقرار والأمن بشكل سريع. اتُتهمت بالفساد أو المحسوبية، أو بالفشل في معالجة القضايا المعيشية الملحة. كما أن سيطرة فصيل معين (هيئة تحرير الشام) على التشكيل الأولي للحكومة جعلها تُتهم بأنها جاني في حق الفصائل الأخرى أو أطياف المجتمع التي لم تُمثل بشكل كافٍ.

• الفصائل التي ترفض الاندماج أو تسليم السلاح، أو التي تستمر في ممارسات تثير الانقسام ولديها مشاريع أخرى، يمكن أن تُنظر إليها كجناة. كما أن أي صراعات داخلية بين الفصائل جعلها جميعًا في دور الجاني في نظر الشعب الذي يتوق إلى الاستقرار.

• النظام السابق وأنصاره: لا يزال النظام السابق وأنصاره يُنظر إليهم كجناة رئيسيين في الدمار الذي لحق بالبلاد والمعاناة التي عاشها الشعب السوري على مدى سنوات.

• تسعى الإدارة الجديدة لتصوير نفسها كمنقذ لسوريا من إرث النظام السابق، ومنقذ للشعب من الفوضى والدمار. هي تحاول إعادة بناء المؤسسات وتوفير الخدمات، مما يجعلها في دور المنقذ الذي يسعى لإعادة الحياة إلى طبيعتها، وهذا فسرته بالعديد من الأحداث التي حصلت في الساحل أو السويداء.

• الفصائل سواء التي شاركت في إسقاط النظام أو التي تسيطر على بعض المناطق السورية الأخرى ترى نفسها كمنقذ للشعب من الاستبداد. بعضها يحاول لعب دور المنقذ من خلال توفير الأمن في مناطق سيطرته أو تقديم بعض الخدمات.

• بعض الدول التي بدأت في التواصل مع الإدارة الجديدة أو تقدم المساعدات، تحاول لعب دور المنقذ لسوريا من خلال دعم الاستقرار وإعادة الإعمار، أو من خلال تسهيل عودة اللاجئين.

2. المجتمع السوري: أدوار متعددة على المستوى الاجتماعي والمحلي

• يظل الشعب السوري هو الضحية الأكبر للصراع المستمر، وللأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وتدهور الخدمات، وتدمير البنى التحتية. هم ضحايا لسنوات الحرب، ولغياب الاستقرار، ولعدم وجود رؤية واضحة للمستقبل.

• لا يزالون ضحايا للتهجير القسري، وللظروف المعيشية الصعبة في المخيمات أو دول اللجوء، ولعدم قدرتهم على العودة بأمان إلى ديارهم.

• تشعر الأقليات بالخوف وعدم اليقين بشأن مستقبلها في سوريا الجديدة، مما يجعلها ترى نفسها كضحايا محتملين لأي صراعات طائفية أو عرقية.

• لكن بلا شك ينظر إلى الانقسامات الطائفية والعرقية والمناطقية داخل المجتمع السوري كجاني يمنع الوحدة والتعافي. كل مجموعة تتهم الأخرى بأنها سبب المشاكل أو أنها لم تقم بدورها بشكل صحيح.

• استمرار الفساد والمحسوبية على المستويات المحلية، حتى بعد سقوط النظام، يجعل بعض الأفراد أو المجموعات يُنظر إليها كجناة ينهبون موارد البلاد ويعيقون التعافي.

• الذين يرفضون المصالحة وأي فئة ترفض المصالحة أو تسعى للانتقام، يُنظر إليها كجاني يساهم في إدامة الصراع.

• المجتمع المدني والمنظمات المحلية تلعب هذه الكيانات دورًا حيويًا كمنقذين على الأرض، حيث تقدم المساعدات الإنسانية، وتعمل على إعادة بناء المجتمعات، وتعزيز المصالحة، وتوفير الخدمات الأساسية في المناطق المحررة.

• بعض المبادرات المحلية التي تسعى لإعادة الحياة إلى طبيعتها في المدن والقرى، أو التي تعمل على توفير فرص العمل، تنظر إلى كياناتها كمنقذين حقيقيين.

• الكفاءات التي تعود إلى البلاد أو التي تعمل من الداخل والخارج للمساهمة في إعادة الإعمار، يرون أنفسهم كمنقذين يسعون لبناء مستقبل أفضل لسوريا.

3. ربط الأحداث وتفنيدها: استمرارية الأدوار الدرامية

إن سقوط النظام في ديسمبر 2024 لم ينهِ مثلث كاربمان الدرامي، بل أعاد توزيعه. فالفئات التي كانت ضحية للنظام، أصبحت الآن في موقع جانيًا أو منقذًا، والعكس صحيح. هذا التنقل في الأدوار يعكس عمق الأزمة السورية وتأثيرها على النسيج الاجتماعي والنفسي للشعب.

• من الضحية إلى الجاني/المنقذ: الفصائل التي كانت ضحية لقمع النظام، أصبحت الآن في موقع السلطة، وتحولت بصورة أو أخرى إلى جاني بعد أن مارست القمع أو الإقصاء، أو إلى منقذ إذا نجحت في بناء دولة عادلة ومستقرة. الشعب الذي كان ضحية للنظام، أصبح الآن ضحية لغياب الاستقرار، وقد يتحول إلى جاني إذا استسلم لليأس أو انخرط في صراعات داخلية، أو إلى منقذ إذا عمل على بناء مجتمعه من الأسفل.

• من الجاني إلى الضحية/المنقذ: أنصار النظام السابق، الذين كانوا يُنظر إليهم كجناة، أصبحوا الآن في وضع الضحية بعد سقوط النظام. بعضهم يحاول لعب دور المنقذ من خلال التكيف مع الوضع الجديد والمساهمة في بناء سوريا حسب مشروع جديد يطرحه، بينما يظل البعض الآخر في دور الجاني من خلال محاولة عرقلة التقدم أو إثارة الفتنة.

• المنقذون الذين يصبحون جناة: بعض الأطراف التي حاولت لعب دور المنقذ (سواء دولية أو محلية)، تحولوا إلى جاة مع اتهامهم بدوافع خفية يريدون التدخل إلى تفاقم الأوضاع أو إدامة الصراع.

إن غياب برنامج سياسي واضح وموحد لأي تشكيل في كامل سوريا، هو أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار هذه الدائرة الدرامية. فكل طرف يعمل وفق أجندته الخاصة، ويرى نفسه على حق، بينما يرى الآخرين كجناة أو كعقبات، مما يمنع التوصل إلى حلول حقيقية ويُبقي سوريا في عنق الزجاجة.

4. غياب البرنامج السياسي الموحد: إدامة للدائرة الدرامية

إن أحد أبرز العوامل التي تساهم في إدامة مثلث كاربمان الدرامي في المشهد السوري بعد سقوط النظام هو الغياب شبه التام لبرنامج سياسي موحد لأي تشكيل في كامل سوريا. وهذا الغياب لا يعكس فقط تشرذم القوى السياسية، بل يؤثر بشكل مباشر على قدرة المجتمع على تجاوز الأدوار الدرامية والتحرك نحو حلول بناءة.

حاليا، كل فصيل سياسي أو عسكري، وكل مكون اجتماعي، لديه رؤيته الخاصة لمستقبل سوريا، وغالبًا ما تكون هذه الرؤى متضاربة أو غير متكاملة. هذا التشرذم يمنع تشكيل جبهة موحدة قادرة على تقديم برنامج سياسي شامل يحظى بقبول واسع. فبدلاً من العمل المشترك نحو هدف واحد، تنخرط هذه الكيانات في صراعات على النفوذ والموارد، مما يعيد إنتاج أدوار الضحية والجاني والمنقذ فيما بينها.

وفي ظل غياب الرؤية الشاملة، تميل الأطراف المختلفة إلى التركيز على مكاسبها الضيقة، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو مناطقية. هذا التركيز يغذي الشعور بأن الآخر هو الجاني الذي يعيق تحقيق هذه المكاسب، وأن الذات هي الضحية التي تُحرم من حقوقها، أو المنقذ الذي يجب أن يفرض رؤيته بالقوة.

إن سنوات الصراع الطويلة، وما صاحبها من انتهاكات وخيانات وتدخلات خارجية، أدت إلى تآكل الثقة بين مكونات المجتمع السوري. غياب البرنامج السياسي الموحد يعمق هذا الانعدام في الثقة، حيث لا يرى أي طرف في الآخر شريكًا حقيقيًا في بناء المستقبل، بل خصمًا محتملاً. هذا الانعدام في الثقة يجعل من الصعب الخروج من الأدوار الدرامية، حيث يظل كل طرف في حالة تأهب للدفاع عن نفسه أو اتهام الآخر.

وفي ظل غياب مشروع وطني جامع، تصبح العديد من القوى المحلية أكثر تبعية للقوى الإقليمية والدولية التي تقدم الدعم. هذه التبعية تعزز من تشرذم المشهد السياسي، حيث تختلف أجندات الداعمين الخارجيين، مما ينعكس سلبًا على إمكانية صياغة برنامج سياسي سوري خالص. كل قوة خارجية ترى نفسها منقذًا، بينما تُتهم بأنها جاني يخدم مصالحها الخاصة على حساب سوريا، وتُعامل القوى المحلية التابعة لها كضحايا أو أدوات.

إن عدم وجود برنامج سياسي واضح يحدد مسار سوريا المستقبلي، يغذي حالة عدم اليقين والقلق لدى عامة الشعب. هذا الشعور بعدم اليقين يجعل الناس أكثر عرضة للوقوع في أدوار الضحية، حيث يشعرون بالعجز أمام مستقبل مجهول، وأكثر عرضة للبحث عن منقذ، أو لاتهام الآخرين بأنهم الجناة الذين تسببوا في هذه الحالة.

تجليات مثلث كاربمان في الواقع السوري: أمثلة وتفاصيل

لتوضيح كيفية تجلي أدوار مثلث كاربمان الدرامي في الواقع السوري، يمكننا الغوص في أمثلة محددة من الأحداث والتفاعلات التي شهدتها البلاد، سواء قبل سقوط النظام أو بعده. هذه الأمثلة تبرز كيف أن الأفراد والجماعات، وحتى الكيانات السياسية، تتنقل بين أدوار الضحية والجاني والمنقذ، مما يعمق الأزمة ويصعب الحل.

1. دور الضحية: من المعاناة الفردية إلى الخطاب الجماعي

منذ بداية الصراع في مارس 2011، كان المدنيون هم الضحية الأبرز. القصف العشوائي، الحصار، الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، كلها ممارسات جعلت الملايين يشعرون بالعجز واليأس. هذا الشعور بالضحية لم يقتصر على الأفراد، بل تحول إلى خطاب جماعي تتبناه المجتمعات المتضررة، وحتى المنظمات الإنسانية التي تسلط الضوء على معاناتهم. بعد سقوط النظام، استمر هذا الشعور بالضحية بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، وغياب الأمن في بعض المناطق، وتأخر إعادة الإعمار. الفلسطينيون في سوريا، على سبيل المثال، يرون أنفسهم ضحايا مزدوجين: ضحايا الصراع السوري، وضحايا التهجير الأصلي.

كما يمثل اللاجئون والنازحون شريحة واسعة من الضحايا. فقدان المنازل، تشتت العائلات، والعيش في ظروف صعبة في المخيمات أو في دول اللجوء، كلها عوامل تعزز شعورهم بالضحية. خطابهم غالبًا ما يتمحور حول معاناتهم، وحاجتهم للمساعدة، وعدم قدرتهم على العودة إلى حياتهم الطبيعية. هذا الدور، وإن كان حقيقيًا، يمكن أن يؤدي في بعض الأحيان إلى انتظار المنقذ الخارجي بدلاً من المبادرة الذاتية.

بعض الأقليات في سوريا، سواء كانت دينية أو عرقية، شعرت بأنها ضحية للصراع، وأن وجودها مهدد. هذا الشعور تفاقم مع صعود الجماعات الإسلامية. بعد سقوط النظام، استمرت هذه المخاوف، مما يجعلهم يرون أنفسهم ضحايا محتملين لأي تغييرات ديموغرافية أو سياسية قد تؤثر على حقوقهم أو وجودهم.

2. دور الجاني: من القمع المباشر إلى الاتهامات المتبادلة

النظام السوري السابق كان الجاني الرئيسي في نظر المعارضة والمجتمع الدولي بسبب قمعه الوحشي للاحتجاجات، واستخدامه للقوة المفرطة، والأسلحة الكيميائية، والحصار. هذه الممارسات رسخت صورته ككيان مضطهد لا يتردد في إلحاق الأذى بشعبه. حتى بعد سقوطه، لا يزال إرثه من الدمار والفساد يجعله الجاني في نظر الكثيرين.

بدورها الجماعات المتطرفة وصعودها وممارساتها الوحشية ضد المدنيين، وتدمير الآثار، وفرض أيديولوجيات متطرفة، جعلها جناة في نظر الجميع تقريبًا. لقد أضافت طبقة أخرى من التعقيد للصراع، وحولت جزءًا من المعركة إلى حرب ضد الإرهاب.

بعض فصائل المعارضة المسلحة على الرغم من أنهم بدأوا كمنقذين محتملين للشعب من النظام، إلا أن بعض فصائل المعارضة ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان، أو انخرطت في صراعات داخلية، أو مارست الفساد، مما جعلها ينُظر إليها كجناة من قبل بعض الفئات التي كانت تدعمها في البداية. هذا التحول من منقذ إلى جاني هو أحد أبرز تجليات مثلث كاربمان.

علاوة على ذلك، يمكن اعتبار بعض القوى الخارجية جناة بشكل غير مباشر، ليس بالضرورة من خلال القمع المباشر، ولكن من خلال تدخلاتها التي أدت إلى إطالة أمد الصراع، أو دعم أطراف معينة على حساب أخرى، أو فرض عقوبات أثرت على حياة المدنيين. فكل طرف يرى أن تدخل الطرف الآخر هو الذي أفسد الوضع، مما يجعلهم جناة في نظر بعضهم البعض.

وعلى المستوى الاجتماعي، يمكن أن يُنظر إلى الانقسامات الطائفية، العرقية، والمناطقية كجاني يعيق تقدم سوريا. فكل طرف يلوم الآخر على حالة التشرذم وعدم الوحدة، مما يغذي دائرة الاتهامات المتبادلة.

3. دور المنقذ: من الأمل إلى الإحباط

• الثوار الأوائل: في بداية الانتفاضة، رأى الكثيرون في الثوار الأوائل منقذين للشعب من الظلم والاستبداد. لقد حملوا على عاتقهم آمال التغيير والحرية، وقدموا تضحيات كبيرة في سبيل ذلك.

• الجيش السوري الحر: عند تشكيله، كان يُنظر إليه كمنقذ للشعب من قمع النظام، وكقوة قادرة على حماية المدنيين. ومع ذلك، فإن تشرذمه، وتأثره بالتدخلات الخارجية، وارتكاب بعض أفراده لانتهاكات، أضعف من صورته كمنقذ مطلق.

• الدول الداعمة للمعارضة: بعض الدول التي قدمت الدعم للمعارضة، حاولت تصوير نفسها كمنقذ للشعب السوري من النظام. ومع ذلك، فإن ترددها، أو دعمها لأطراف معينة دون أخرى، أو عدم قدرتها على فرض حل سياسي، أدى إلى إحباط كبير وجعل دورها كمنقذ مشكوكًا فيه.

• روسيا وإيران: قدمتا نفسيهما كمنقذين للنظام السوري من السقوط، وكقوتين تحاربان الإرهاب. ومع ذلك، فإن تدخلهما العسكري أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وزيادة الدمار، مما جعلهما جناة في نظر المعارضة والمجتمع الدولي.

• المنظمات الإنسانية: لعبت دورًا حيويًا كمنقذين للمتضررين من الصراع، مقدمة المساعدات والإغاثة. ومع ذلك، فإن حجم الكارثة كان أكبر من قدرتها، وغالبًا ما كانت تواجه تحديات كبيرة في الوصول إلى المحتاجين، مما يجعل دورها محدودًا في حل الأزمة الشاملة.

• الإدارة الجديدة بعد ديسمبر 2024: تسعى الإدارة الجديدة لتصوير نفسها كمنقذ لسوريا من إرث النظام السابق، ومنقذ للشعب من الفوضى. هي تحاول إعادة بناء المؤسسات وتوفير الخدمات، لكنها تواجه تحديات هائلة قد تجعلها تفشل في تحقيق التوقعات، مما قد يحولها من منقذ إلى جاني في نظر الشعب إذا لم تتمكن من تحسين الأوضاع بشكل ملموس.

توضح هذه الأمثلة أن الأدوار في مثلث كاربمان ليست ثابتة، بل هي ديناميكية ومتغيرة. فالمنقذ اليوم قد يصبح الجاني غدًا، والضحية قد تتحول إلى جاني أو منقذ. هذا التنقل المستمر في الأدوار هو ما يجعل المشهد السوري معقدًا وصعب الحل، ويؤكد على أن الخروج من هذا المثلث يتطلب وعيًا عميقًا بهذه الديناميكيات وتغييرًا جذريًا في طريقة التفكير والتفاعل بين جميع الأطراف.

الخروج من مثلث كاربمان الدرامي

إن إدراك أن المجتمع السوري، بجميع أطيافه السياسية والاجتماعية، قد وقع في فخ مثلث كاربمان الدرامي، هو الخطوة الأولى نحو الخروج من هذه الدائرة المدمرة. إن الحل لا يكمن في تحديد من هو الضحية الحقيقية أو الجاني الأكبر، بل في فهم الديناميكيات التي أبقت الصراع مستمرًا، والعمل على تغييرها. يتطلب الخروج من هذا المثلث تحولًا جذريًا في العقلية والسلوك، ويمكن تحقيق ذلك من خلال مجموعة من التوصيات:

1. الوعي بالأدوار وتفكيكها:

• يجب نشر الوعي بمفهوم مثلث كاربمان الدرامي على نطاق واسع في المجتمع السوري، من خلال ورش العمل، والحملات الإعلامية، والمناهج التعليمية. فهم هذه الأدوار يساعد الأفراد والجماعات على التعرف على الأنماط السلوكية المدمرة التي يمارسونها أو يقعون ضحايا لها.

• يجب على كل طرف أن يقوم بمراجعة ذاتية صادقة لأدواره في الصراع. على الفصائل السياسية والعسكرية أن تسأل نفسها: هل كنا منقذين حقيقيين أم أننا تحولنا إلى جناة؟ هل سعينا للمصلحة العامة أم لمصالح فئوية ضيقة؟ على المجتمع المدني أن يسأل: هل كنا ضحايا سلبيين أم أننا ساهمنا في إدامة الصراع بطريقة ما؟

• يجب التوقف عن لعبة اللوم المتبادل التي تغذي دور الجاني. التركيز يجب أن يكون على الحلول المستقبلية بدلاً من الغرق في الماضي وتحديد المسؤوليات الفردية أو الجماعية عن كل خطأ.

2. بناء الثقة والمصالحة:

• لا يمكن بناء سوريا جديدة دون حوار وطني شامل يضم جميع الأطياف والمكونات، بما في ذلك من كانوا جزءًا من النظام السابق، شريطة عدم تلطخ أيديهم بالدماء. هذا الحوار يجب أن يكون مبنيًا على الاحترام المتبادل، والاعتراف بالمعاناة المشتركة، والبحث عن أرضية مشتركة للمستقبل.

• يجب معالجة قضايا العدالة الانتقالية بشكل عادل وشفاف. هذا يشمل كشف الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وجبر الضرر للضحايا. العدالة الانتقالية ليست للانتقام، بل لإعادة بناء الثقة ومنع تكرار الانتهاكات، مما يساعد على تفكيك أدوار الجاني والضحية.

• يجب دعم المبادرات المحلية للمصالحة بين المجتمعات التي تضررت من الصراع. هذه المبادرات يمكن أن تساعد على شفاء الجروح، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي، وتجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية.

3. صياغة برنامج سياسي موحد ورؤية وطنية:

• يجب على القوى السياسية والاجتماعية أن تتفق على مجموعة من الأولويات الوطنية التي تتجاوز المصالح الفئوية. هذه الأولويات يجب أن تركز على بناء الدولة، وتحقيق الاستقرار، وتحسين الأوضاع المعيشية، وإعادة الإعمار.

• يجب العمل على بناء مؤسسات دولة قوية، شفافة، وخاضعة للمساءلة، تخدم جميع المواطنين دون تمييز. هذه المؤسسات هي الضمانة لعدم عودة الأدوار الدرامية، ولحماية الشعب من أن يصبح ضحية مرة أخرى.

• يجب استقطاب الكفاءات السورية من الداخل والخارج، والاستفادة من خبراتهم في جميع المجالات لبناء سوريا الجديدة. هؤلاء يمكن أن يلعبوا دور المنقذ الحقيقي من خلال العمل الجاد والموضوعي.

• يجب على السوريين أن يتفقوا على رؤية موحدة للتعامل مع التدخلات الخارجية، بحيث تكون هذه التدخلات داعمة للاستقرار والبناء، ولا تساهم في إدامة الصراع أو تعزيز الأدوار الدرامية.

4. التحول من الدراما إلى التمكين:

• يجب تمكين الفئات التي كانت ضحية للصراع، مثل اللاجئين والنازحين والمدنيين المتضررين، من خلال توفير فرص التعليم والعمل، والدعم النفسي، والمشاركة في عملية صنع القرار. هذا التحول من دور الضحية السلبية إلى دور الفاعل والمشارك هو جوهر الخروج من المثلث.

• بدلاً من التركيز على العقاب فقط، يجب أن يكون هناك مسار لإعادة تأهيل من ارتكبوا أخطاء (باستثناء الجرائم الكبرى)، وتحويلهم إلى أفراد مسؤولين يساهمون في بناء المجتمع. هذا لا يعني التسامح مع الجرائم، بل البحث عن طرق لكسر دائرة الانتقام وإعادة دمج الأفراد في المجتمع.

• يجب على من يلعبون دور المنقذ أن يتحولوا من مقدمي المساعدة إلى شركاء حقيقيين، يعملون جنبًا إلى جنب مع المجتمع السوري لتمكينه من حل مشاكله بنفسه. هذا يتطلب التخلي عن الشعور بالتفوق أو الرغبة في السيطرة، والتركيز على بناء القدرات المحلية.

خاتمة: نحو سوريا تتجاوز الدراما

لقد تبيّن أن سقوط النظام في سوريا في ديسمبر 2024، على الرغم من كونه حدثًا تاريخيًا مفصليًا، لم ينهِ بالضرورة الديناميكيات المعقدة التي حكمت العلاقات بين مكونات المجتمع السوري على مدى سنوات الصراع. فمثلث كاربمان الدرامي، بأدواره المتغيرة للضحية والجاني والمنقذ، استمر في تشكيل التفاعلات السياسية والاجتماعية والمحلية، مما يعكس عمق الأزمة وتأثيرها على النسيج النفسي والاجتماعي للشعب.

لقد رأينا كيف أن الأطراف التي كانت ضحية للقمع قبل سقوط النظام، وجدت نفسها بعده في مواقع قد تجعلها تمارس دور الجاني أو المنقذ، وكيف أن من حاولوا الإنقاذ قد يتحولون إلى جناة، أو يجدون أنفسهم ضحايا لتعقيدات المشهد. هذا التنقل المستمر في الأدوار، وغياب برنامج سياسي موحد يجمع السوريين على رؤية مشتركة للمستقبل، هو ما يُبقي سوريا في دائرة مغلقة من الصراع، ويمنعها من الخروج من عنق الزجاجة.

إن الخروج من هذا الفخ الدرامي ضروري لبناء سوريا جديدة مستقرة ومزدهرة. يتطلب ذلك وعيًا جماعيًا بهذه الأدوار، ومساءلة ذاتية وجماعية صادقة، والتخلي عن لعبة اللوم المتبادل. كما يتطلب بناء الثقة والمصالحة من خلال حوار شامل وعدالة انتقالية حقيقية ومبادرات مجتمعية لشفاء الجروح.

الأهم من ذلك، يجب على السوريين، بجميع أطيافهم، أن يتجاوزوا المصالح الفئوية الضيقة وأن يعملوا على صياغة برنامج سياسي وطني موحد، يضع مصلحة سوريا العليا فوق كل اعتبار. هذا البرنامج يجب أن يرتكز على بناء مؤسسات دولة قوية وشفافة تخدم جميع المواطنين، واستقطاب الكفاءات الوطنية، وتحييد التدخلات الخارجية التي لا تخدم سوى إدامة الصراع.

إن التحول من الدراما إلى التمكين هو جوهر الحل. فتمكين الضحايا ليصبحوا فاعلين ومشاركين في بناء مستقبلهم، وتحويل من ارتكبوا الأخطاء إلى أفراد مسؤولين يساهمون في المجتمع، وتحويل المنقذين إلى شركاء حقيقيين يعملون جنبًا إلى جنب مع الشعب السوري، هو السبيل الوحيد لكسر هذه الدائرة. سوريا تستحق أن تتجاوز هذه المرحلة الدرامية، وأن تبدأ فصلًا جديدًا من تاريخها مبنيًا على الوحدة، والعدالة، والازدهار، بعيدًا عن أدوار الضحية والجاني والمنقذ التي طالما قيدتها.

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment