bah الصحافة الإسرائيلية بين التجييش والتعتيم: كيف تُصاغ رواية الحرب على غزة - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

الصحافة الإسرائيلية بين التجييش والتعتيم: كيف تُصاغ رواية الحرب على غزة

09/18/2025 - 16:56 PM

San Diego

 

 

مازن الجعبري *

 

منذ السابع من أكتوبر 2023، تاريخ عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، دخلت إسرائيل في مواجهة عسكرية غير مسبوقة مع قطاع غزة. لكن الحرب لم تكن فقط في الميدان، بل امتدت إلى الفضاء الإعلامي، حيث لعبت الصحافة الإسرائيلية دورًا مركزيًا في إنتاج وتأطير الخطاب السياسي والأمني، وتشكيل الوعي الجمعي الإسرائيلي تجاه ما يحدث في غزة والضفة الغربية، هذا الدور الإعلامي لم يكن محايدًا، بل انقسم بين خطاب تعبوي تحريضي يشرعن العنف، وخطاب نقدي يحاول محاسبة السلطة وكشف الانتهاكات.

في المرحلة الأولى من الحرب، هيمنت سردية "الضحية" على التغطية الإعلامية، حيث تم تأطير الهجوم الفلسطيني باعتباره اعتداءً وحشياً على المدنيين الإسرائيليين، دون أي محاولة لتقديم السياق التاريخي للصراع أو الإشارة إلى الاحتلال المستمر والحصار المفروض على غزة. هذا التأطير الإعلامي، الذي يُعد أحد أدوات الهيمنة الرمزية، ساهم في شرعنة الرد العسكري الإسرائيلي، وتبرير القصف المكثف للمناطق السكنية والمرافق الصحية والتعليمية في القطاع.

وسائل إعلام مثل "يديعوت أحرونوت" و"واي نت" اعتمدت على الخطاب الأمني كمحور رئيسي في تغطيتها، حيث نشرت في 20 أكتوبر 2023 تقريرًا بعنوان "الجيش يرد على الإرهاب في غزة"، دون أي ذكر لعدد الضحايا المدنيين أو حجم الدمار. أما صحيفة "مكور ريشون"، فقد كتبت في افتتاحيتها بتاريخ 5 ديسمبر: "ما يحدث في غزة ليس إبادة، بل تطهير ضروري من الإرهاب"، في تجاهل واضح للمعايير الأخلاقية المهنية التي يفترض أن تحكم التغطية الإعلامية في أوقات النزاع.

رغم الأعداد الهائلة من الضحايا المدنيين الفلسطينيين في غزة، والتي تجاوزت 168 ألف شهيد وجريح منذ السابع من أكتوبر، معظمهم من النساء والأطفال، فإن الإعلام الإسرائيلي نادرًا ما يتناول هذه المعاناة بشكل إنساني أو مهني، بل يُلاحظ أن الخطاب الإعلامي السائد يتبنى استراتيجية "التنميط الأمني"، حيث يُصوّر كل فلسطيني في غزة كتهديد محتمل، ما يبرر ضمنيًا استهدافه، حتى لو كان طفلاً أو مريضاً أو نازحاً.

في هذا السياق، تكررت تصريحات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، في وسائل الإعلام مثل "واي نت" و"القناة 12"، والتي يُبرر فيها استهداف منازل المدنيين بأنها "مواقع عسكرية لحماس"، دون تقديم أدلة ملموسة. في أواخر أب 2025، شنّت القوات الإسرائيلية غارة على مجمع ناصر الطبي في خان يونس، ما أدى إلى سقوط عدد من الضحايا بينهم صحفيون، الجيش الإسرائيلي برّر الهجوم بزعم وجود معدات مراقبة تابعة لحماس داخل المستشفى، لكن تحقيقات صحفية لاحقة كشفت أن تلك المعدات كانت جزءًا من أدوات تصوير يستخدمها صحفيون دوليون لتوثيق الأحداث. هذا النوع من الخطاب يُعد نموذجًا للتأطير الإعلامي الذي يُشرعن القتل ويُجرد الضحايا من إنسانيتهم.

كما أن الإعلام الإسرائيلي يتجاهل عمدًا عرض صور الضحايا الفلسطينيين أو سرد قصصهم، في مقابل التركيز المكثف على مشاهد الحزن في المستوطنات الإسرائيلية. هذا التحيز في التغطية يُكرّس احتكار السردية، ويُقصي الرواية الفلسطينية من المجال العام، ما يُعد شكلاً من أشكال الاستعمار الإعلامي. وفي حالات نادرة، يتم ذكر الضحايا الفلسطينيين، لكن غالبًا ما يُستخدم ذلك في سياق تبريري. على سبيل المثال، في تغطية صحيفة "إسرائيل هيوم" بتاريخ 3 كانون الثاني 2024، ورد أن "مقتل المدنيين في غزة أمر مؤسف لكنه ضروري لتحقيق أهداف الحرب"، في تعبير واضح عن شرعنة القتل الجماعي تحت مظلة الدفاع عن النفس.

هذا الخطاب الإعلامي لا يقتصر على تجاهل الضحايا، بل يمتد إلى تبرير استهداف الصحفيين أنفسهم، الذين يُفترض أنهم ينقلون الحقيقة. منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023، وثّق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد 225 صحفيًا فلسطينيًا على يد الجيش الإسرائيلي حتى منتصف سبتمبر 2025، في حصيلة تُعد الأعلى عالميًا في تاريخ الحروب الحديثة ضد الصحفيين. وقد أكدت منظمات دولية مثل اللجنة الدولية لحماية الصحفيين، ومنظمة قصص ممنوعة، والأمم المتحدة أن العديد من هؤلاء الصحفيين قُتلوا أثناء تغطيتهم الميدانية، أو خلال استهداف مباشر لمقار إعلامية، أو حتى أثناء وجودهم في منازلهم مع عائلاتهم. هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الخسائر في الجسم الصحفي الفلسطيني، بل تكشف عن نمط ممنهج في استهداف الإعلاميين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني الذي يُفترض أن يوفر لهم حماية خاصة أثناء النزاعات المسلحة.

في المقابل، تبنّت بعض المنصات الإعلامية خطابًا تحريضيًا صريحًا، تجاوز حدود التعبئة إلى الدعوة المباشرة للعنف والإبادة. قناة 14 الإسرائيلية، على سبيل المثال، بثّت تصريحات للمذيع شمعون ريكلين في 10 تشرين الثاني 2023 قال فيها: "يجب تدمير كل ما تبقى من البنية التحتية في غزة، لا مكان للرحمة هنا"، بينما صرّحت المذيعة كيتي شطريت في 15 تشرين الثاني: "لو كنت صاحبة القرار، لقمت بمسح غزة عن الخارطة". هذه التصريحات تُعد نموذجًا للخطاب الإعلامي التحريضي الذي يخرق المعايير المهنية والأخلاقية، ويُسهم في عسكرة الإعلام وتحويله إلى أداة في يد المؤسسة العسكرية.

التحريض لم يقتصر على القنوات التلفزيونية، بل امتد إلى الصحافة المكتوبة، ففي مقال نشره الصحفي داني نيومان في صحيفة "إسرائيل هيوم" بتاريخ 18 تشرين الثاني 2023، كتب: "يجب أن يُقتل مئة ألف فلسطيني خلال اليومين الأولين من أي هجوم، كي يفهموا أن إسرائيل لا تمزح". كما دعا الصحفي تسفي يحزقيلي في قناة 13 يوم 22 كانون الاول إلى استهداف الصحفيين الفلسطينيين، واعتبرهم "أدوات دعائية لحماس"، في دعوة صريحة لانتهاك القانون الدولي الإنساني، وتكريس الاستعمار الإعلامي الذي يُقصي الرواية الفلسطينية ويُجرّمها.

في ظل هذا المشهد، برزت صحيفة هآرتس كاستثناء نسبي، حيث تبنّت خطابًا نقديًا يحاول مساءلة السلطة وكشف الانتهاكات. في اب 2024، نشرت الصحيفة تحقيقًا يكشف أن الجيش الإسرائيلي يُجبر المدنيين الفلسطينيين على تفتيش الأنفاق والمنازل المشتبه بتفخيخها، بهدف حماية الجنود الإسرائيليين، في انتهاك واضح للقانون الدولي. وفي مايو 2024، نشرت تقريرًا يؤكد انتحار عشرات الجنود وضباط إسرائيليين منذ بداية الحرب، وسط تكتم من الجيش، مشيرة إلى أن معظم الحالات كانت لجنود شباب في الخدمة الدائمة والاحتياط، ما يعكس أزمة نفسية داخل المؤسسة العسكرية.

كما كشفت الصحيفة في اب 2024 عن استخدام الجيش لوسائل غير أخلاقية لتجنيد طالبي اللجوء من أفريقيا، حيث يُمنحون امتيازات مالية وسكنية مقابل المشاركة في الحرب على غزة، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا حول استغلال الفئات المهمشة. وفي تحليل نشرته الكاتبة كارولينا لاندسمان في اذار 2024، وصفت الواقع الإسرائيلي بأنه "مشوَّه وغارق في العبث"، مشيرة إلى تجاهل الحكومة للدمار والضحايا الأبرياء في غزة، واستئناف الحرب رغم معرفة الجيش بأن ذلك سيؤدي إلى مقتل المزيد من الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في القطاع.

هذا الخطاب النقدي لم يمر دون رد فعل رسمي، إذ قررت الحكومة الإسرائيلية في تشرين الثاني 2024 مقاطعة صحيفة هآرتس رسميًا، متهمة إياها بـ دعم حماس" و"الإساءة لإسرائيل"، بعد أن وصف مالك الصحيفة عاموس شوكين المسلحين الفلسطينيين بأنهم "مقاتلون من أجل الحرية"، ودعا إلى فرض عقوبات على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، هذا القرار يُعد نموذجًا للرقابة الإعلامية ومحاولة احتكار السردية، ويعكس عدائية السلطة الإسرائيلية بالنقد الداخلي، حتى لو جاء من داخل المؤسسة الإعلامية الوطنية.

في سياق تصاعد الخطاب التحريضي داخل الإعلام الإسرائيلي، لم تقتصر الدعوات على استهداف الفلسطينيين فحسب، بل امتدت لتشمل وسائل الإعلام الدولية التي تنقل الرواية الفلسطينية. ففي تصريح صادم، قال الصحفي الإسرائيلي المعروف إيدي كوهين في مقطع فيديو متداول بتاريخ 4 يناير 2024: كنت سأسعد لو أن صاروخًا أصاب قناة الجزيرة.”هذا التصريح لا يُعبّر فقط عن عداء تجاه الإعلام العربي، بل يكشف عن رغبة صريحة في إسكات أي صوت ينقل معاناة الفلسطينيين، ويُعد نموذجًا صارخًا للخطاب الإعلامي الذي يُحرّض على العنف ضد الصحافة المستقلة، ويُشرعن استهدافها.

 

في خضم هذه الحرب الإعلامية، يتضح أن غالبية وسائل الإعلام الإسرائيلية لا تؤدي دورًا صحفيًا مستقلًا، بل تتحول إلى أدوات تعبوية وتجييش تخدم أجندة المؤسسة العسكرية والحكومة. فبدلًا من محاسبة السلطة أو نقل الحقيقة، تنخرط هذه المنصات في خطاب دعائي يُشرعن القتل الجماعي للفلسطينيين، ويجرد الضحايا من إنسانيتهم عبر التنميط والتأطير الأمني. هذه الصحافة المجيشة لا تكتفي بتجاهل معاناة المدنيين، بل تبرر استهدافهم، وتُعيد إنتاج سردية رسمية تُقصي الرواية الفلسطينية وتُجرّمها، في خرق واضح لأخلاقيات المهنة الصحفية.

 

*كاتب ومحلل سياسي

القدس المحتلة

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment